تعتبر الثقوب السوداء من أكثر الأشياء غموضا وروعة في الكون، إنها مساحات في الفضاء تكون فيها الجاذبية قوية جدا بحيث لا يمكن لأي شيء، ولا حتى الضوء، الهروب منها.
لكن ماذا لو كنا بالفعل داخل ثقب أسود؟ ماذا لو كان كوننا كله نتيجة ثقب أسود هائل ابتلع كونًا آخر؟ هناك العديد من السيناريوهات التي تحاول الإجابة عن هذه التساؤلات.
التمدد السباغيتي
في أحد السيناريوهات، يفترض الفيزيائيون أن ثقبا أسود قد ابتلع كوكبنا في مرحلة ما من تاريخه، وإذا ما حدث هذا فسيؤدي إلى سحب كارثي من الجاذبية، وكلما اقتربت الأرض من أفق حدث الثقب الأسود زاد معدل تباطؤ الزمن. واعتمادا على حجم الثقب الأسود، يمكن أن تتمدد المادة إلى أشكال تشبه أعواد المعكرونة السباغيتي.
تسمى هذه الظاهرة في الفيزياء الفلكية بـ”التمدد السباغيتي” (spaghettification)، وهو تأثير المد والجزر الناجم عن حقول الجاذبية القوية التي تتسبب في شد الجسم باتجاه الثقب الأسود وضغطه كلما اقترب منه. في الواقع، يمكن تشويه الكائن إلى نسخة طويلة رفيعة من شكله الأصلي كما لو كان يتمدد مثل السباغيتي.
وحتى لو نجا الكوكب من هذا التمدد، فإن الأرض ستكون مرتبطة بالتفرد الثقالي الكثيف بالغ الصغر (Singularity)، حيث ستحترق بفعل ضغط ودرجة حرارة قوة جاذبية يتعذر فهمها.
لذلك يمكننا استبعاد احتمال أن يكون ثقبا أسود قد ابتلع كوكب الأرض؛ حيث كان من الممكن هضمه في جزء من الثانية. لكن هناك طريقة أخرى ربما انتهى بها المطاف بالأرض في باطن الثقب الأسود: ربما تكونت هناك!
فرضية بوبلاوسكي
يشبه الثقب الأسود إلى حد كبير الانفجار العظيم وإنما في الاتجاه المعاكس، فالرياضيات التي تفسر كلا منهما متشابهة. بينما ينهار ثقب أسود على نقطة صغيرة شديدة الكثافة “نقطة التفرد”، ينطلق الانفجار العظيم من هذه النقطة.
قد يبدو هذا وكأنه رواية خيال علمي، لكنه في الواقع فرضية علمية جادة لاقت دعما كبيرا من قبل بعض الفيزيائيين، بما في ذلك عالم الفيزياء البولندي نيكوديم بوبلاوسكي. اشتهرت فرضية بوبلاوسكي على نطاق واسع قائلة إن كل ثقب أسود يمكن أن يكون مدخلا لكون آخر وإن الكون قد تشكل داخل ثقب أسود موجود في كون أكبر. أدرجت هذه الفرضية في دوريتي “ساينس” (Science) و”ناشونال جيوغرافيك” (National Geographic) ضمن الاكتشافات العشرة الأولى لعام 2010.
وكتب بوبلاوسكي مقالًا لـ”إنسايد ساينس” (Inside Science) في عام 2012، يوضح فكرته حول أن كوننا قد يكون موجودا داخل ثقب أسود. ووفقًا لبوبلاوسكي، تستند هذه الفرضية إلى فكرة أن الانفجار العظيم، الذي يُقبل على نطاق واسع باعتباره أصل كوننا، كان في الواقع ثقبا أسود في كون مختلف وأصبحت المادة الكونية التي امتصها الثقب الأسود اللبنات الأساسية لكوننا. هذا يعني أن كوننا هو واحد من العديد من “الأكوان الصغيرة” التي ولدت داخل الثقوب السوداء في أكوان أخرى.
نتائج مثيرة للاهتمام
هذه الفرضية لها بعض النتائج المثيرة للاهتمام لفهمنا لطبيعة ومصير كوننا. على سبيل المثال، يمكن أن تفسر سبب استمرار الكون الذي نعرفه في التوسع والتسارع، حيث يُرجع بوبلاوسكي هذا إلى أن الثقب الأسود الذي خلق منه كوننا لا يزال نشطًا ويتغذى على المزيد من المواد من الكون الأصلي؛ حيث تضيف له هذه المواد الطاقة والكتلة اللازمتين لجعله يتوسع بشكل أسرع وأسرع.
والنتيجة الأخرى هي أن كل ثقب أسود في كوننا يمكن أن ينتج أيضا أكوانا جديدة بداخله. هذا من شأنه أن يخلق بنية جزيئية دقيقة -شبيهة بالكسور (Fractals)- من الأكوان داخل الأكوان، ولكل كون منها قوانين وخصائص فيزيائية مختلفة. يقول بوبلاوسكي إن هذا قد يفسر سبب عدم قدرتنا على رؤية ما يحدث داخل الثقوب السوداء في كوننا.
بالطبع، هذه الفرضية تخمينية للغاية ولها العديد من التحديات والقيود. لسبب واحد، أنها تعتمد على نسخة معدلة من نظرية النسبية العامة لأينشتاين التي تتضمن التأثيرات الكمومية والالتواء، وهو مقياس لكيفية تشوه الزمكان حول المادة.
التحدي الآخر
يكمن التحدي في كيفية اختبار هذه الفرضية وإيجاد دليل تجريبي عليها. يعترف بوبلاوسكي بصعوبة ذلك، لكنه يقترح بعض الطرق الممكنة للقيام به. تتمثل إحدى الطرق في البحث عن بصمات الالتواء في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وهو أقدم شعاع ضوئي في الكون. هناك طريقة أخرى؛ وهي البحث عن الانحرافات والاختلافات في توزيع المادة والطاقة في الكون والتي يمكن أن تشير إلى تأثير الكون الأصلي.
من المؤكد أن فرضية بوبلاوسكي مثيرة للاهتمام، لكنها بعيدة كل البعد عن أن تكون مقبولة من سائر المجتمع العلمي، حيث إنها تواجه العديد من العقبات النظرية والتجريبية التي يجب التغلب عليها قبل أن يمكن اعتبارها بديلا قابلا للتطبيق للنموذج الكوني القياسي. ومع ذلك، فإنها تظهر أن الثقوب السوداء ليست مجرد أشياء رائعة وحسب، ولكنها أيضا نوافذ محتملة في عوالم أخرى.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.