4 ملامح أساسية تعيد من خلالها الرأسمالية الأميركية اختراع ذاتها -وفق ما جاء في المحاضرة الهامة التي ألقاها جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي للبيت الأبيض أواخر أبريل/نيسان الماضي في جامعة جون هوبكنز.
المكان له دلالته، فقد شهد إنشاء أول مركز لدراسة الصين منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. التنافس مع الصين أحد المحددات الأساسية في “رواية واشنطن الجديدة للاقتصاد العالمي”، أو ما أطلق عليه البعض “إجماع واشنطن الجديد” -في إشارة لإجماع واشنطن أواخر الثمانينيات من القرن الماضي الذي قدم توصيات للدول النامية تقوم على تفعيل السوق الحرة وتقليل تدخل الدولة في التنمية، على أن يقود تنفيذ تلك التوصيات الصندوق والبنك الدوليان.
أهمية هذه العملية أنها تتضمن إعادة تعريف للعولمة كما عرفناها في حقبة ما بعد الحرب الباردة، إذ يعتقد كبار صانعي السياسة في الولايات المتحدة الآن أن نموذج العولمة -بعد عام 1990- الذي أعطى الأولوية للتجارة والأسواق الحرة على حساب الأمن القومي وتغير المناخ والأمن الاقتصادي للطبقة الوسطى، قد قوض الأسس الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطيات السليمة.
التنافس مع الصين أحد المحددات الأساسية في “رواية واشنطن الجديدة للاقتصاد العالمي”، أو ما أطلق عليه البعض “إجماع واشنطن الجديد”
الملامح الأربعة للتعريف الجديد
- أولا: تدخل الحكومات لتغيير نتائج السوق في مواجهة صيغة تم الترويج لها على غير الواقع تقوم على سوق حرة تتحكم فيها قوى العرض والطلب.
الهدف من تدخل الحكومات هو تغيير نتائج السوق بطرق تجعلها متوائمة بشكل أفضل مع مقتضيات الأمن القومي، ليس من أجل تحسين الكفاءة، ولكن من أجل تعزيز الأمن القومي والمرونة الاقتصادية.
ليس من الواضح ما إذا كانت مخاوف الأمن القومي المزعومة “المباشرة” التي ذكرها سوليفان حقيقية أم مجرد ذريعة لاتخاذ إجراءات أحادية الجانب.
قد يشعر الأصوليون في السوق الحرة بالضيق، ولكن في العالم الحقيقي، فإن العديد من التدخلات الحكومية غير المثيرة للجدل نسبيا -حتى المدعومة على نطاق واسع- تشكل نتائج السوق.
- ثانيا: إعادة تشكيل جانب العرض في الاقتصاد سعيا وراء أهداف أخرى غير الكفاءة في تخصيص الموارد. يتحقق ذلك عبر تكامل الاستثمارات بين الخاص والعام، كما ظهر في توفير لقاحات كورونا حيث شجع الاستثمار العام الشركات على سرعة إنتاج اللقاحات.
مثال آخر: يعتبر استثمار القطاع العام في البنية التحتية والتعليم وقاعدة العلوم والتكنولوجيا في الاقتصاد مكملا أساسيا للاستثمار الخاص، وتخفيف المخاطر وزيادة العائدات وتعزيز الأداء الاقتصادي العام.
اتبعت الولايات المتحدة أجندة اقتصادية أسمتها وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين في محاضرة في الجامعة نفسها: “اقتصاديات جانب العرض الحديثة”. وتقصد بها: “تصميم سياساتنا لتوسيع القدرة الإنتاجية للاقتصاد الأميركي، أي رفع سقف ما يمكن أن ينتجه اقتصادنا” بغض النظر عن الكفاءة، وليس الغرض منه الاكتفاء الذاتي كما كان مطروحا في الدول النامية في حقبة ما بعد الاستعمار، فهذه القدرة الإنتاجية تتركز في قطاعات محددة مثل المواد الطبية وتكنولوجيا الطاقة النظيفة وأشباه الموصلات.
- ثالثا: قيود مفروضة على التدفق الحر للتجارة والاستثمار والتدفقات التكنولوجية في مقابل العولمة القائمة على تماسك النظام التجاري متعدد الأطراف، وتحويل العديد من الروابط في سلاسل توريد أشباه الموصلات العالمية المعقدة إما إلى الولايات المتحدة أو إلى شركاء تجاريين ودودين أو موثوقين بما يلغي بشكل مباشر نتائج السوق في قطاع مهم، والكفاءة ليست الهدف، فالولايات المتحدة تأمل بدلا من ذلك إعاقة تقدم الصين في التقنيات المتقدمة، بما في ذلك أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي.
- رابعا: الانتقال إلى اقتصاد إنتاجي عالي القيمة والتكنولوجيا في مقابل الاقتصاد المالي.
يقول سوليفان: “بغض النظر عن حجم تحدياتنا المشتركة، وبغض النظر عن عدد الحواجز التي قمنا بإزالتها. الآن، لا أحد -وبالتأكيد لست أنا- يستبعد قوة الأسواق. ولكن باسم كفاءة السوق المبسطة، انتقلت سلاسل التوريد الكاملة للسلع الإستراتيجية، إلى جانب الصناعات والوظائف التي صنعتها، إلى الخارج. والافتراض القائل إن التحرير العميق للتجارة من شأنه أن يساعد أميركا على تصدير السلع، وليس الوظائف والقدرة، كان وعدا تم قطعه، ولكن لم يتم الوفاء به”.
ويضيف: “كان الافتراض الآخر المضمر هو أن نوع النمو لا يهم. كل النمو كان جيدا. لذلك، اجتمعت العديد من الإصلاحات وتضافرت لتمييز بعض قطاعات الاقتصاد، مثل التمويل، في حين ضمرت قطاعات أساسية أخرى، مثل أشباه الموصلات والبنية التحتية”.
هناك أجندتان متنافستان على تشكيل السياسات الاقتصادية المحلية والخارجية للولايات المتحدة، تركز إحداهما على إنشاء اقتصاد أميركي شامل ومرن ومزدهر ومستدام، في حين تركز الثانية على الجغرافيا السياسية وعلى الحفاظ على التفوق على الصين
لماذا إجماع واشنطن الجديد؟
أما الأسباب التي يسوقها سوليفان لإعادة تعريف الرأسمالية فهي:
- “هزت أزمة مالية الطبقة الوسطى” -يقصد الأزمة المالية في 2008، كما يشير إلى انتقال الوظائف إلى الصين.
- “كشف الوباء عن هشاشة سلاسل التوريد لدينا”.
- “تغير المناخ يهدد الأرواح وسبل العيش”، وهو بذلك يشير إلى التحديات المستقبلية حيث الافتراض أن مناهضة التغير المناخي سيقود النمو العالمي في القرن الـ21.
- “أبرز الغزو الروسي لأوكرانيا مخاطر الاعتماد المفرط”، ويقصد بها اعتماد أوروبا على النفط الروسي.
لذا فإن هذه اللحظة وفق سوليفان “تتطلب أن نتوصل إلى إجماع جديد”.
ويضيف إلى العوامل السابقة مسألة التنافس مع الصين، أو بعبارة أكثر وضوحا الحفاظ على التفوق الأميركي في نظام دولي ربما لا توجد به حقيقة مقبولة على نطاق واسع اليوم أكثر من فكرة أنه لم يعد أحادي القطب تنفرد فيه الولايات المتحدة بالهيمنة، كما كان في تسعينيات القرن الماضي.
يقول سوليفان: “التحدي الذي واجهناه كان التكيف مع بيئة جديدة تحددها المنافسة الجيوسياسية والأمنية، مع تأثيرات اقتصادية مهمة”، ويضيف: “كان علينا أن نتعامل مع حقيقة أن اقتصادا كبيرا غير سوقي (الصين) قد تم دمجه في النظام الاقتصادي الدولي بطريقة فرضت تحديات كبيرة”.
التنافس أو الصراع مع الصين مما يجمع عليه الحزبان الديمقراطي والجمهوري، ولكن إدارة الرئيس بايدن تبنت موقفا أكثر صرامة تجاه الصين من أي إدارة سابقة، بما في ذلك إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث تعاملت مع النظام الصيني كخصم وفرضت قيودا على الصادرات والاستثمار وعلى التقنيات الحيوية.
هناك أجندتان متنافستان حاليا على تشكيل السياسات الاقتصادية المحلية والخارجية للولايات المتحدة. تتمثل إحداهما في نظرة داخلية تركز على إنشاء اقتصاد أميركي شامل ومرن ومزدهر ومستدام، في حين تركز الثانية على الجغرافيا السياسية والحفاظ على تفوق الولايات المتحدة على الصين.
يعتمد مستقبل الاقتصاد العالمي على نتيجة هذا الصراع، وما إذا كانت هذه الأولويات المتعارضة يمكن أن تتعايش.
ملحوظتان على طبيعة الصراع
لكن ما يحسن أن نؤكد عليه نقطتان:
- الأولى: أن التنافس الصيني الأميركي ليس ذا طبيعة صفرية -كما كان في حقبة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، إذ يقول سوليفان: “نحن نؤيد المخاطرة والتنويع وليس الفصل. سنواصل الاستثمار في قدراتنا الخاصة، وفي سلاسل التوريد الآمنة والمرنة. سنواصل الضغط من أجل تكافؤ الفرص لعمالنا وشركاتنا والدفاع ضد الانتهاكات. ستظل ضوابطنا على الصادرات مركزة بشكل ضيق على التكنولوجيا التي يمكن أن تغير التوازن العسكري. نحن ببساطة نضمن عدم استخدام التكنولوجيا الأميركية والحليفة ضدنا”.
ويضيف: “نحن لا نقطع التجارة. في الواقع، لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بعلاقة تجارية واستثمارية كبيرة للغاية مع الصين”. سجلت التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين رقما قياسيا جديدا العام الماضي.
يؤكد مستشار الأمن القومي: “عندما تبتعد عن الاقتصاد، فإننا نتنافس مع الصين على أبعاد متعددة، لكننا لا نبحث عن مواجهة أو صراع.”
- الثانية: أنه رغم ما يبدو في كلام سوليفان من بريق حين ربط المحلي بالعالمي، والأميركي بالأوروبي، والغربي بباقي دول العالم، فإن التفاصيل صعبة لأن الصين تقدم بدائل للسياسات الغربية -كما في أفغانستان التي دمجتها في مشروع طريق الحرير الجديد بعد أن تخلى عنها الغرب، وإغراءات كبيرة للدول النامية من خلال الاستثمارات والقروض، كما خطت خطوات كبيرة في احتواء بعض الدول الأوربية.
لمصلحة من هذا النظام الدولي الجديد؟
بغض النظر عن التبشير الذي يقدمه سوليفان حين يربط الأمن القومي الأميركي بقيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة في توزيع عوائد النمو وحقوق العمال وإحياء نقاباتهم، فإن النجاح كما يبدو له: “يحتاج العالم إلى نظام اقتصادي دولي يعمل من أجل أصحاب الأجور لدينا، ويعمل لصالح صناعاتنا، ويعمل من أجل مناخنا، ويعمل من أجل أمننا القومي، ويعمل لصالح أفقر دول العالم وأكثرها ضعفا”.
هكذا، نحن إزاء نظام دولي يعمل لصالح أميركا أولا وآخرا، ولصالح شركائها الذين تتحدد أدوارهم من خلال موقعهم في سلاسل التوريد والمنافسة الإستراتيجية مع الصين، وقد يعمل آخر المطاف لصالح أفقر دول العالم وأكثرهم هشاشة، وذلك وفق سوليفان: “نحن ملتزمون أيضا بمعالجة أزمة الديون التي يواجهها عدد متزايد من البلدان الضعيفة.”
ونسأل أخيرا: هل يمكن للولايات المتحدة أن تعالج مخاوفها المتعلقة بالأمن القومي وتنافسها أو صراعها مع الصين دون تقويض الاقتصاد العالمي؟
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.