بحلول الوقت الذي تقرأ فيه هذا التقرير ستكون مباراة الجولة الثانية بين بايرن ميونيخ والسيتي قد لُعبت بالفعل، وغادر البايرن دوري الأبطال رسميا، لكننا نتحدث الآن عن اللقطة الأبرز في المباراة الأولى، ليس فقط لأن المواجهة حُسمت بالفعل في ملعب الاتحاد، ولم تكن موقعة أليانز أرينا أكثر من تحصيل حاصل، ولكن لأن تلك اللقطة تستحق حقا أن نقف عندها.
لِمَ فعل ذلك؟ كيف اتخذ قرارا كهذا؟ بمَ كان يفكر؟ ربما عصفت تلك الأسئلة برأسك حينما رأيت الكرة تفتك من بين أقدام دايوت أوباميكانو عن طريق جاك غريليش، وربما هذا ما دار برأس دايوت أيضا للحظة؛ يسأل ذاته لِمَ فعل ما فعل، وبمَ كان يفكر، ولكن بالحكم على أدائه بعد الهدف الثاني للسيتي أمام البايرن، فربما دارت تلك الأسئلة برأس الرجل لمدة أطول مما نظن.
تعلم كيف تسير تلك الأمور؛ تكون الكرة بحوزة اللاعب، فيُسيء التصرف بها في موقف حرج كهذا، ويعلم حينها أن مصيره صار بين يدي جيوش فيسبوك وتويتر التي قد تُنهي مسيرته بغض النظر عن مستواه في باقي الموسم.
يقول سيغموند فرويد، مؤسس علم التحليل النفسي، في حديثه عن العقل البشري إنه مثل الجبل الجليدي، الذي يطفو فوق سطح الماء بسُبع حجمه فقط، وبصرف النظر عن صحة تلك النسبة من عدمها، فإن عالم الأعصاب النمساوي على حق في مجمل كلامه الذي يرى أنه لا يمكن لنا معرفة كيفية عمل العقل البشري بالكامل؛ نحن لا نرى إلا النتيجة النهائية، ونحكم بناء عليها، ولكننا لا نرى ما يتوارى تحت السطح، تلك الخبايا التي تختلف من شخص إلى آخر ومن موقف إلى آخر، ولا يمكن الحكم عليها بشكل أعمق إلا من منظور ذاتي في العديد من الأحيان، فالنفس بصيرة على ذاتها. (1)
يقدم تفكير الجبل الجليدي (Iceberg thinking) طريقة تفكير أعمق لتحليل الأمور، ومحاولة النظر إلى الصورة الأشمل وليس ما تراه أعيننا للوهلة الأولى فقط. يسري الأمر ذاته في كرة القدم، قد ننظر إلى النتيجة النهائية لأي مباراة ونبدأ في الحديث فورا عن مدى سوء الفريق الخاسر أو الأخطاء التي ارتكبها، ولا ننظر حينها قط لاحتمالية أن الفريق الخاسر هو -ربما- مَن لعب المباراة الأفضل، ولا يقتصر الأمر على نتائج المباريات وحسب، بل يسري أيضا على قرارات اللاعبين أثناء اللقاء.
ماذا لو؟
لنتخيل للحظة أن أوباميكانو قد مرر الكرة لبافار أو غيره بشكل صحيح، وحينها، لم يكن ليكمل المباراة كما أكملها، مشتت الذهن في العديد من المناسبات، متأثرا بخطئه ومفكرا في عواقبه، ولما ناله ما ناله بعد المباراة من انتقادات وإهانات دنيئة تناست الموسم المميز الذي يقدمه المدافع الفرنسي رفقة ممثل إقليم بافاريا. (2)
لكنك تعلم كما نعلم أن أوباميكانو ليس أول مَن يخطئ، وقطعا لن يكون الأخير. ماذا لو تخيلنا على سبيل المثال أن الإيطالي جورجينيو سجَّل إحدى ركلتي الجزاء اللتين أهدرهما أمام منتخب سويسرا في مباراتين مختلفتين في تصفيات كأس العالم الماضية؟ لربما انفجرت إيطاليا حينها، فكانت ستتأهل إلى المونديال الذي انتهى منذ مدة، وكان الأتزوري ليوجد بأحد أفضل أجياله منذ عام 2006، عندما فازوا بالذهب وقتها -للمفارقة- بركلات الجزاء، ولكننا نعلم ما حدث. (3)
ربما كان على جورجينيو أن يسدد بشكل أفضل في المرتين، لن نجادل هنا، هو حتى لم يجادل، بل على العكس، فقد صرح في مارس/آذار الماضي أن هذا سوف يطارده لبقية عمره، لكن جورجينيو مثل أوباميكانو؛ لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فكلنا نتذكر ما حدث مع باجيو في مونديال 94، وتكرر الأمر مع بوكايو ساكا بعد تضييعه لركلة الجزاء الترجيحية الأخيرة أمام جيانلويجي دوناروما في نهائي اليورو الأخير؛ فقد تلقى العديد من التعليقات التي تعدت الحدود، من ألفاظ نابية إلى عبارات عنصرية، ولكم أن تتخيلوا ما شعر به اللاعب الذي كان يبلغ من العمر وقتها 19 عاما، أو يمكنكم سؤال أوباميكانو هنا. (2) (4) (5)
الحقيقة أن باجيو، وجورجينيو، وساكا، وأوباميكانو، ليسوا حالات عابرة أو فردية. إذا وسّعنا آفاقنا من ركلات الجزاء فقط إلى القرارات العابرة؛ سواء كانت تسديدات أو تمريرات أو تصرفات دفاعية كالافتكاك أو الانزلاق أو الضغط، فسنجد أن ردود الفعل الغاضبة تلك ليست كهطول المطر في أغسطس، بل هي كجلوسك حاليا على هاتفك أو حاسوبك وتصفح مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، أو مُشاهدة فيلم ما، أو حتى كقراءتك لهذا التقرير، أمست أشياء تحدث باستمرار، ربما أكثر مما نظن.
ما نريد قوله هو إن التمريرات، أو التسديدات -سواء كانت بعيدة المدى أو في موقف واحد ضد واحد مع حارس الخصم- أو التصرفات الدفاعية، أو حتى ركلات الجزاء، عبارة عن لحظة واحدة خاطفة، وتسبقها حالة من التفكير والتردد، وربما تكون خمنت لِمَ يتردد اللاعبون في قراراتهم؛ فقد يخشون ما سيُكتب عنهم بعد المباراة إن قاموا بقرار ما خاطئ، أو السباب الذي سيتلقونه من جموع المقاهي الغاضبة. لكن حتى إن لم يفكروا بذلك، فهم يفكرون بالموقف، وبتحليله، وبتحديد القرار الذي يجب أن يتخذوه في ثوانٍ معدودة وأحيانا تحت ضغط لا يمكن تخيله. هل ظننت حقا أن الأمر بتلك السهولة؟ (6)
العلم نور
حسنا، نحن نتحدث عن إحدى أعقد العمليات التي تتم داخل المخ البشري، وللمفارقة، هي عملية تحدث في ثوانٍ قليلة جدا. في عام 2008، قام جون ديلان هاينس، أحد علماء الأعصاب بمعهد ماكس بلانك بمدينة لايبزيغ في ألمانيا، بتجربة هدفها الرئيس تحديد كيفية عمل الدماغ البشري عند اتخاذ قرار معين. صورت الأشعة أدمغة 14 متطوعا لهذه التجربة، وخلالها جرى تمرير صور لبعض الحروف تباعا أمام كل متطوع على شاشة، وكان هناك زرّان، الأول تتحكم به اليد اليمنى للمتطوع، والآخر تتحكم به اليسرى، وكان كل ما على المتطوعين فعله هو الضغط على أحد الزرين عند مرور كل حرف، ما استدعى منهم أن يتذكروا أي الزرين يجب ضغطه مع كل حرف على شاشتهم.
عندما حلل الباحثون النتائج، وجدوا أن أقصر مدة بين إشارة المخ لاتخاذ القرار واتخاذ القرار ذاته كانت 7 ثوانٍ، وباعتبار بعض الفوارق الإضافية فقد قدّروا أن تلك المدة قد تصل فعليا إلى 10 ثوانٍ، بمعنى أوضح: اتخذ مخك قرارا ما قبل أن تتخذه أنت ظانًّا أنه قرارك الحر الكامل بنحو عشر ثوانٍ كاملة! وجاءت تلك الإشارات من منطقة في الدماغ تدعى بالقشرة الأمامية (frontal cortex)، وهي التي توجد خلف الجبهة مباشرة. (7)
لكن في عام 2019، عُدِّلت هذه النظرية بشكل ما؛ بعدما اكتشف الباحثون بجامعة ييل أمرا مغايرا، فقد استخدموا أداة جديدة للتلاعب بدوائر الدماغ في بعض الفئران في تجربة معملية، لاختبار اختياراتهم للأفعال التي تجعلهم يحصلون على مكافآت معينة من عدمه، ووجدوا أن عملية اتخاذ القرار لا تقتصر على القشرة الأمامية في الدماغ فحسب، وهي مقر التفكير عالي المستوى.
تقول ستيفاني غرومان، وهي من علماء النفس بالجامعة والمسؤولة عن تلك التجربة، أن هناك على الأقل 3 مناطق مختلفة في الدماغ تعمل بطرق مميزة لتساعدنا في اتخاذ القرار الجيد، فمثلا، ربما أراد أحدنا الذهاب لأحد المطاعم لتناول العشاء، فإذا كان الطعام جيدا في هذا المطعم، فستعمل دائرة معينة في المخ في إشارة إلى القرار الجيد، وإذا كان الطعام سيئا، فستعمل دائرة مغايرة في إشارة إلى القرار السيئ، والدائرة الثالثة -المسؤولة عن الذاكرة- هي المفتاح في قرارنا المستقبلي بالعودة إلى هذا المطعم أم لا. ألم نقل لك بأن الأمر ليس بتلك السهولة؟ (8)
غيض من فيض
“When you play a match, it’s statistically proven that players actually have the ball 3 minutes on average. So, the most important thing is what do you do during those 87 minutes when you do not have the ball. That’s what determines whether you’re a good player or not.”
– Cruyff pic.twitter.com/AYJZeN9Cs4
— Barça Universal (@BarcaUniversal) August 28, 2018
لا يظهر من الجبال الجليدية إلا نسبة ضئيلة فقط، إشارة إلى أن ما نراه بالفعل في العديد من المواقف لا يعبر عن الحقيقة كاملة، لكنك تعلم ذلك الآن. نحن لا نرى إلا لقطة عابرة، ولا نستطيع الحكم عليها مباشرة دون التعمق في أسباب حدوثها، لكننا نتمسك بأحكامنا -السطحية في العديد من الأحيان- دون أن نكترث بمراجعتها مستقبلا، ربما لأننا لا نريد أن نشغل عقولنا بالتعمق في أشياء نظنها أبسط مما هي عليه حقا، ما يُدعى بـ”Simplicity bias” أو انحياز التبسيط. (9) (10)
كذلك الأمر في كرة القدم وفي مسألة اتخاذ القرارات فيها؛ من تمرير وتسديد وافتكاك وقرارات بدون الكرة، وتُعَدُّ الأخيرة هي الأهم؛ نعلم جميعا أن لاعب كرة القدم لا تكون الكرة بحوزته أكثر من 3 دقائق في المباراة الواحدة، وتلك الـ87 دقيقة التي لا تكون بها الكرة بحوزته هي ما تحدد حقا جودته لاعبا.
ماذا لو أخبرناك أن أوباميكانو قد يكون فكَّر أكثر من مرة في لقطة الهدف الثاني للسيتي؟ ماذا لو أخبرناك أن بافار كان عليه أن يتحرك للخلف قليلا بشكل قُطْري لكي يفتح زاوية تمرير لزميله الفرنسي بعد أن تحرك جاك غريليش بشكل مقوَّس لإغلاق زاوية التمرير عليه؟ وماذا لو أخبرناك أيضا أن كيميتش أشار إلى أوباميكانو بالتمرير القُطْري لسيرجي غنابري أو ليروي ساني ليستغل ترحيل لاعبي السيتي إلى الناحية اليمنى للبايرن؟ وأنه كان من السهل إيجاد موقف 3 على 3 بين مهاجمي البايرن ومدافعي السيتي؟ هل تفيد رؤية الجبل الجليدي كاملا في تغيير رأيك؟
في مايو/أيار 2021، نُشِرَت ورقة بحثية على موقع المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية بولاية ماريلاند في الولايات المتحدة، وكان لها هدفان رئيسيان، أولهما؛ فهم عملية اتخاذ القرار بوجه عام في الرياضات الجماعية، والآخر كان تحديد خصائص اتخاذ قراراتٍ كتلك في سياق الرياضات نفسها. المقصود هو تحليل منهجية الأفراد الموجودين على أرضية الملعب أثناء اتخاذ قراراتهم في المباريات، وأثناء الضغط الذي يتعرضون إليه؛ سواء كان جسديا أو نفسيا أو ذهنيا، وكان ذلك من خلال دراسة تقارير تحمل أدلة تجريبية على تلك القرارات وأساليب اتخاذها. (11)
شروط تلك الدراسة كانت انتقائية للغاية، لدرجة أن من أصل 524 تقريرا قُدِّم إلى المسؤولين عن البحث، قُبِل 53 تقريرا فقط. مفاد تلك التقارير هو أن هناك ثلاثة مناظير مختلفة لاتخاذ القرارات على أرضية الملعب. يمكن تسمية المنظور الأول “الذاكرة”، لأنه مبني على تحليل معلوماتٍ من مواقف سابقة من الذاكرة، ويمكن أن ندعو الثاني بـ”الاستطلاع”، لأن جوهره هو الاعتماد على استطلاع الموقف المعنيّ، ومحاولة تحليله عن طريق استكشاف الموقف ومحاكاته بداخل ذهن اللاعب واتخاذ قرارٍ على أساسه، والأخير، ولنسمّه “التفاعل”، يتعلق بعوامل ديناميكية بيئية؛ أي تعتمد على رد فعل اللاعبين تجاه الموقف المحيط بهم الذي سيتضمن الكثير من الحركة، وهذا ما دعاه الباحثون بالتفاعل بين عاملي إدراك المعلومات التي تُشكِّل الموقف، والتصرف على أساسها.
الحضور الذهني عامل أساسي في المناظير الثلاثة؛ فلا يمكن بداهة للاعب أن يتخذ قرارا في موقف يتعرض فيه لضغط من الخصم مثلا، أو في تمريرة بها قدر من المخاطرة، أو في موقف واحد ضد واحد، ولا يكون بكامل تركيزه. هذا في حد ذاته يعتمد على العديد من العوامل؛ كالوقت المتاح للتصرف، وهذا منطقي، فالتعجل يتناسب عكسيا مع جودة التصرف غالبا، وعوامل أخرى مثل مدى تعقيد الموقف، وغيرها.
لا نحتاج إلى أن نخبرك كم أن القرارات المتخذة -سواء فردية كانت أو جماعية- مهمة، وهي العامل الفارق في نتيجة أي مباراة سواء انتهت بالفوز أو التعادل أو الخسارة، ولكن علينا ألا ننسى أن تلك الرياضات الجماعية لا تُلعب من قِبَل آلات، بل بشر، وردود فعلهم تتغير من شخص إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، وتتشكَّل على اختلاف كل مجال وآخر وكل رياضة وأخرى، وتخضع لقوانين تلك الرياضات العشوائية في أساسها، وهذا ما جعل الباحثين يحللون تلك القرارات من الأساس، والمؤكد أن ذلك لم يكن سهلا على الإطلاق.
“التدرب يُوجِد عقلا بداخل عضلاتك”
رغم غرابة مقولة سام سنيد، وهو أحد أعظم لاعبي الغولف عبر التاريخ، حول العقل الذي يوجد داخل عضلاتك، فإنها تلائم ما نود الحديث عنه هنا. محاكاة المواقف التي قد تحدث أثناء المباراة في التدريبات بشكل مستمر، وعلى فترات طويلة، هو ما يجعل التصرف في تلك المواقف أسهل. الأمر كالرياضيات؛ فهي لا تعتمد على حفظ القواعد والقوانين بقدر ما تعتمد على مدى تدربك على حل المسائل المعقدة، فتجد نفسك قادرا على حل المسائل الأسهل التي غالبا ما توجد في الامتحان النهائي، ربما ليس دائما. (12)
في أغسطس/آب 2020، نُشِرَت ورقة بحثية في أحد المجلدات الخاصة بالتطبيقات العملية في مجال علم الأعصاب الإدراكية، وتلك التطبيقات جُمِعت في مجلد موحد لتكون ضمن سلسلة كتب “التطور في أبحاث الدماغ”، وهي السلسلة الأكثر شهرة في مجال علم الأعصاب. ذلك المجلد يهتم بعمليات الإدراك واتخاذ القرار في مجالات عدة؛ مثل الاقتصاد، والرياضات الجماعية المختلفة ككرة القدم والكرة الطائرة، وغيرها. (13)
اهتمت تلك الورقة بعملية اتخاذ القرار بناء على دراسة باستخدام الفيديو لمجموعة من اللاعبين من فئات سنية مختلفة؛ لاعبين تحت 16 عاما، وتحت 18 عاما، وتحت 23 عاما. كانت الدراسة تهتم بالقدرات الذهنية لدى اللاعبين أكثر من أي شيء آخر؛ كالإدراك والتوقع اللذين يؤديان إلى عمل المخ بالطريقة المذكورة سابقا، ما يؤدي إلى القرار الذي يتخذه اللاعب على أرض الملعب.
أوضحت النتائج فارقا واضحا في وقت الاستجابة للمواقف المختلفة التي وُضع فيها اللاعبون من مختلف الأعمار، كان الفارق بين اللاعبين تحت الـ23 عاما، واللاعبين تحت الـ18 عاما والـ16 عاما جليا، فاستجابة اللاعبين تحت الـ23 عاما كانت أسرع، وهذا منطقي؛ فقد اختُبِروا في مواقف متكررة لمدة أطول من نظرائهم في الفئات السنية الأصغر. المثير للاهتمام أن المدربين الذين كانوا يراقبون هذه التجربة لم ينبسوا ببنت شفة عن جودة القرارات التي اتخذها اللاعبون في مختلف الفئات السنية المذكورة. (14)
إذن نحن لم نترك مجالا هنا للغوغائية في عملية اتخاذ القرار، ومن البديهي ألا نفعل ذلك، لأن هنالك أساسيات وطرقا لاتخاذ القرارات الصحيحة على أرض الملعب؛ مثل الإيمان بقدراتك لاعبا، والهدوء تحت الضغط، وتقييم الموقف عن طريق السلوك الاستكشافي، وتوقع الخطوة القادمة للخصم إن تحدثنا عن القرارات بدون الكرة. هناك تمارين خفيفة لتطوير عملية اتخاذ القرار عند اللاعبين، وهذا ما يهتم به المدربون في التدريبات، وعلى اللاعب أن يهتم بها أيضا ولا يتهاون عندها؛ لأنها تبني ثقته بنفسه في التعامل بطريقة معينة تحت الضغوطات. (15)
لكننا في النهاية نتحدث عن لعبة غريبة الأطوار، وليست مبنية على قواعد علمية ناجزة، ولا تعتمد على فرضيات مؤكدة أو ملموسة، بل تتخذ من العشوائية دستورا أحيانا، حتى وإن كان هناك بعض الناس الذين يحاولون تقليل آثار تلك العشوائية بشكل علمي؛ مثل استخدام شركات البيانات في الانتدابات مثل “ستاتس بومب” (Statsbomb) و”واي سكاوت” (Wyscout)، وتعاقد ليفربول مع شركة “نيورو 11” (Neuro 11) المتخصصة في علم الأعصاب، وغيرها من الأمثلة. (16)
لكن في تلك اللحظات الحاسمة، أو حتى غير الحاسمة، يعصف بذهن اللاعب ما يعصف بذهنك في سير عملك اليومي؛ هل يؤدي بشكل جيد اليوم؟ هل يفعل هذا أو ذاك بشكل صحيح؟ ما الذي عليه فعله في موقف ما؟ إذا اتخذ هذا القرار فسيؤدي غالبا إلى هجمة عكسية خطيرة، وإذا اتخذ ذاك القرار فلن يكون مجديا وسيكون أهدر ثواني قيمة قد تكلف فريقه إذا كان خاسرا أو متعادلا، وربما يدرك ما عليه فعله، لكن سرعة وتيرة اللعب في بعض الأحيان قد تكون لها الكلمة العليا.
نحن نتحدث عن لعبة تعتمد في المقام الأول على العنصر البشري، وهو عنصر متقلب ولا يسير على الوتيرة نفسها بالضرورة، وقد تمر علينا أيام ننجز بها أعمالنا اليومية بكفاءة عالية، تحت تأثير حالة مزاجية جيدة أو ما شابه، وقد تمر علينا أيام أخرى كل ما نريده بها هو الراحة والعزلة، ولا يختلف الأمر مع مَن يتخذون ملاعب كرة القدم مقرا لعملهم، سواء كانوا لاعبين أو مدربين. ألسنا جميعا بشرا في النهاية؟
لا يمكن لنا معرفة كيفية عمل العقل البشري بالكامل، فنحن لا نرى إلا النتيجة النهائية، ونبدأ الحكم اعتمادا عليها، ولكننا لا نرى ما يتوارى تحت السطح؛ نعني العقل، وخباياه التي تختلف من شخص إلى آخر ومن موقف إلى آخر. ربما كان علينا أن نتريث في الحكم على ما فعله أوباميكانو في هدف السيتي الثاني، وربما علينا أن نثبت مقولة فرويد في أذهاننا قبل أن نطلق الأحكام على ما يحدث في مباريات كرة القدم، أو في الحياة بوجه عام.
———————————————————————————
المصادر:
1- تفكير الجبل الجليدي – GCF Global
2- بايرن ميونيخ يدين العبارات العنصرية التي تلقاها دايوت أوباميكانو بعد خسارة فريقه أمام مانشستر سيتي – The Athletic
3- مطاردة ركلتي الجزاء التي أضاعهما “جورجينيو” أمام سويسرا في تصفيات كأس العالم – موقع جول
4- باجيو يتحدث عن ركلة الجزاء أمام البرازيل في كأس العالم 1994 – فوتبول إيطاليا
5- أرسنال يدين التعليقات العنصرية التي تلقاها “بوكايو ساكا” بعد نهائي يورو 2020 أمام إيطاليا – NDTV sports
6- 17 عبارة عليك أن تجعل لاعبيك يستمعون إليهم منك بين الحين والآخر – Football scoop
7- العقل يتخذ القرارات قبل أن تدرك ذلك – Nature.com
8- كيف يجعلنا المخ نتخذ القرارات الجيدة وأيضا السيئة – Yale
9- بعض المعلومات عن الجبال الجليدية – Lpi education
10- انحياز التبسيط – Issuepedia
11- محاولة لفهم عملية اتخاذ اللاعبين لقراراتهم في الرياضات الجماعية – دراسة بالأدلة التجريبية – National center for biotechnology information
12- مقولة سام سنيد – Brainyquote
13- نبذة عن مجلدات “التطور في أبحاث الدماغ – Elsevier
14- تحليل عملية اتخاذ القرار في صفوة أكاديميات كرة القدم باستخدام الفيديو – Researchgate
15- كيفية تحسين عملية اتخاذ القرار للاعبين – Shoot score soccer
16- نبذة عن شركة نيورو 11
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.