مواجهة في الظل.. مَن ينتصر في حرب البيتكوين بين حماس وإسرائيل؟


في فبراير/شباط الماضي، اهتمت وسائل الإعلام الإسرائيلية بتصريحات المدعي العام البلغاري إيفان جيشيف، الذي قال إن بلاده قد تلجأ إلى إسرائيل للحصول على المساعدة في تحقيقات تقوم بها حول الاشتباه بضلوع شخص يتاجر في العملات المشفرة في انتهاك العقوبات على روسيا وتمويل الإرهاب. وتُعَدُّ استعانة صوفيا بدولة الاحتلال علامة على ذيع صيتها في هذا المجال، بعدما اكتسبت خبرة كبيرة في تعقب العملات المشفرة، التي لجأت إليها حركات المقاومة في السنوات الأخيرة للتغلب على الحصار الإسرائيلي. هذا وأبدت دولة الاحتلال من جانبها اهتماما كبيرا بهذه القضية كون الأمر يتعلق بشركة “نِكسو” (Nexo) لإقراض العملة المشفرة، التي تتخذ من العاصمة البلغارية مقرا لها، وهي شركة متهمة بالقيام بصفقتين مرتبطتين مع شخص متورط في “تمويل حركة حماس”، كما يزعم الاحتلال.
ورغم نفي الشركة الاتهامات بحقها، تُسلِّط القضية الضوء على معركة صاخبة تدور خلف الكواليس بين الاحتلال الإسرائيلي وحركات المقاومة، وخاصة حماس، في فضاء العملات المشفرة، فعلى مدار السنوات الماضية، صادرت وجمَّدت إسرائيل العديد من محافظ العملات الرقمية والعملات المشفرة على اعتبار أنها تخص الجناح العسكري لحماس، كما جمَّدت أموالا تعود لشركات صرافة مقرها غزة بذريعة نقل الأموال إلى حماس، ما أفضى في النهاية إلى قرار كتائب القسام، الجناح العسكري للحركة، في أبريل/نيسان الماضي، بوقف استقبال التبرعات عبر البيتكوين.

حرب العملات المشفرة

في أواخر يناير/كانون الثاني 2019، فاجأت كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) الجميع بإعلانها بدء استقبال التبرعات عبر العملة الرقمية الأكثر شيوعا “البيتكوين”، حينها أرسل القسام عبر قناته على تلغرام التي تضم 180 ألف متابع مُعلنا بدء استقبال العملات المشفرة عبر رسالة تقول: “احجز لنفسك حصة لدعم المقاومة من خلال رابط التبرع بالبيتكوين”.

فُسِّرت هذه الخطوة وقتها بأنها استجابة للأزمة المالية التي تعاني منها حماس، التي دفعت جناحها العسكري إلى اللجوء للعملات الافتراضية التي توفر مستويات عالية من السرية كونها لا تحتوي على رقم تسلسلي ولا تخضع لسيطرة الحكومات والبنوك المركزية. ولجأت حماس إلى هذه الخطوة بعد اختناق غزة بالحصار الذي بدأ عام 2007، وإغلاق الأنفاق المؤدية إلى القطاع عام 2013، ما فاقم أزمة الحركة عبر حرمانها من مصدر مالي كبير وفَّره الدخل الضريبي للبضائع التي تدفقت على القطاع في السابق. كل هذه العوامل، وغيرها، ساهمت في زيادة الضغط المالي على الحركة، وجعلتها تلجأ إلى عالم العملات المشفرة.

طلبت حماس من المتبرعين في البداية إرسال البيتكوين إلى عنوان رقمي واحد (محفظة واحدة)، لكن سرعان ما غيرت الحركة آليتها لتجنب مراقبة تمويلها. ولجعل تتبُّع الأموال أمرا صعبا طوَّرت الحركة برنامجا يُنشئ عنوانا جديدا للمحفظة الرقمية في كل مرة يقوم فيها المتبرع بمسح رمز الاستجابة السريعة، وقدمت الكتائب عبر موقعها الإلكتروني حينها إرشادات خطوة بخطوة لكيفية إرسال الأموال عبر فيديو مدته دقيقتان مترجم إلى الإنجليزية، وجَّهت فيه المتبرعين نحو إخفاء مواقعهم ونقل الأموال بأمان دون الوقوع في فخ التتبع.

وبحلول يونيو/حزيران 2021، وفي الوقت الذي كانت أنظار العالم تتجه فيه نحو قطاع غزة الذي خرج لتوه من قتال استمر لمدة 11 يوما مع دولة الاحتلال، جدَّدت كتائب القسام إعلانها استقبال التبرعات عبر البيتكوين. وقد عبَّر مسؤول كبير في الحركة في حوار له مع صحيفة “وول ستريت جورنال” عن فخره بزيادة التبرعات بالعملات المشفرة منذ بدء الصراع المسلح مع إسرائيل في مايو/أيار 2021، مؤكدا استعمال هذه التبرعات في العمل العسكري المقاوم للكتائب. وقال المسؤول الذي لم يُكشف عن اسمه: “هناك بالتأكيد ارتفاع كبير في تبرعات البيتكوين، واستُخدِمَت بعض الأموال لأغراض عسكرية للدفاع عن الحقوق الأساسية للفلسطينيين”.

بعد مُضي أقل من شهر على حديث مسؤول حماس، أعلن “المكتب الوطني الإسرائيلي لمكافحة تمويل الإرهاب” (NBCTF) عن أول عملية مصادرة للعملات المشفرة متعلقة بـ”تمويل الإرهاب” المزعوم من المحافظ المرتبطة بحملات التبرعات التي تقوم بها حماس لعملات البيتكوين والإيثريوم وغيرهما. وعقب هذه العملية التي سقط فيها أكثر من 70 حسابا من البيتكوين تابعة لحماس بالإضافة إلى حسابات أخرى، خرج وزير دفاع الاحتلال آنذاك “بيني غانتس”* مبتهجا بنجاح مؤسسته في مصادرة عشرات المحافظ الرقمية المرتبطة بالحركة، وقال حينها إن “الأدوات الاستخباراتية والتكنولوجية والقانونية التي تُمكِّننا من الحصول على أموال الإرهابيين في جميع أنحاء العالم تُشكِّل اختراقا واضحا”.

خلال هذه العملية، قام الاحتلال بتحليل باستخدام الاستخبارات مفتوحة المصدر “OSINT” للعثور على عناوين تبرعات حماس باستخدام أدوات تحليل سلاسل الكتل “بلوكتشين”، ما مكَّنه من متابعة الأموال للعثور على عناوين المحافظ الإلكترونية، والكشف عن أسماء الأفراد المرتبطين بالحملات. بعدها قام الوكلاء بتتبع الأموال والاستيلاء عليها، وسمَّت دولة الاحتلال عنوانَيْن كان لهما دور في تحويل الأموال إلى الحركة، أحدهما في سوريا، والآخر في دولة أخرى في الشرق الأوسط دون تحديده بالضبط.

حصار افتراضي

بدأ مشوار استهداف التدفق النقدي الرقمي لحركة حماس بواسطة الولايات المتحدة التي تُصنف حركة المقاومة الفلسطينية بوصفها “منظمة إرهابية”، وتعتبر واشنطن، بموجب هذا التصنيف، أن من غير القانوني تزويد الحركة بالمال أو معدات التدريب، كما يُلزِم التصنيف نفسه الشركات والمؤسسات المالية بالإبلاغ عن أي أموال تُرسل إلى الحركة.

وفي أغسطس/آب 2020، قامت وزارة العدل الأميركية بأكبر عملية مصادرة على الإطلاق للعملات المشفرة ممن وصفتهم بـ”الجماعات الإرهابية”، وكان من بينها كتائب عز الدين القسام. وذكرت الوزارة أن “عملاء مصلحة الضرائب ووزارة الأمن الداخلي ومكتب التحقيقات الفيدرالي قاموا بتتبع ومصادرة جميع حسابات العملات المشفرة البالغ عددها 150، التي تمت من خلالها عمليات غسل الأموال من وإلى حسابات كتائب القسام (حماس)”.

في أبريل/نيسان 2023، عادت إسرائيل للإعلان عن مصادرتها عدة حسابات مرتبطة بمنظمات تعتبرها “إرهابية” في بورصة العملات المشفرة “Binance”. (شترستوك)

عمل الأميركيون بقوة على تنظيم المحافظ الرقمية حتى لا تكون مجهولة الهوية، بل اقترحوا مُساءلة الشركات في حال اكتشاف دفع أموال رقمية لجهات محظورة. ومع ذلك كان المبلغ الذي صادره الأميركيون ضئيلا نسبيا -يزيد قليلا على مليون دولار-، وهو ما يعني أن السلطات الأميركية استطاعت بالكاد اختراق شبكات التشفير الخاصة بحماس. وقد كانت حماس -وما زالت حتى الآن- قادرة على التحرك بشكل أسرع من واشنطن وتل أبيب لمنع الوصول إلى شبكتها المالية على الإنترنت وتفكيكها، وإن كانت جهود إسرائيل مؤخرا قد عرقلت بشكل أكبر من ذي قبل كفاءة حماس في عالم العملات المشفرة.

تضمنت هذه الجهود إنشاء هيئة خاصة لمتابعة الأموال والتبرعات التي تصل إلى الفصائل الفلسطينية في عام 2018، عُرفت باسم “الهيئة الوطنية الإسرائيلية لمكافحة الإرهاب الاقتصادي” التابعة لوزارة الدفاع. وبحلول يناير/كانون الثاني 2022، جاءت أكبر عملية مصادرة لصرف العملات المشفرة الخاصة بحماس على يد إسرائيل بعدما صادرت دولة الاحتلال 2.6 مليون شيكل (836.168 دولارا) من العملات المشفرة من شركة صرافة لها علاقات بحركة حماس في قطاع غزة تسمى “متحدون”، في عملية شاركت فيها استخبارات جيش الاحتلال وهيئة مكافحة الإرهاب الاقتصادي، وقسم الجرائم الإلكترونية في وحدة “لاهاف 443” للجرائم الكبرى في شرطة الاحتلال، بالإضافة إلى وحدة الفضاء السيبراني في مكتب المدعي العام لدولة الاحتلال.

وفي أبريل/نيسان 2023، عادت إسرائيل للإعلان عن مصادرتها عدة حسابات مرتبطة بمنظمات تعتبرها “إرهابية” في بورصة العملات المشفرة “Binance”، مؤكدة ضبط أكثر من 80 حسابا رقميا ومئات المحافظ الرقمية المرتبطة بشركات صرافة لها علاقة بحماس. ورغم أن المبلغ المضبوط البالغ نصف مليون شيكل (137,870 دولارا) ليس مبلغا كبيرا، فإن دولة الاحتلال اعتبرت الضربة مهمة كونها تساعد على “شل” استخدام العملة الرقمية، وفي الوقت نفسه تسهم في إحجام الكيانات الخارجية عن التعامل مع هذه البورصات. وبعد نحو أسبوع من تلك العملية، فاجأ القسام الجميع بإعلانه التوقف عن استقبال الأموال باستخدام عملة البيتكوين، وأرجع ذلك إلى حرص الحركة على حماية المانحين المتبرعين، وعدم تعرضهم لأي تهديد أو مضايقات من قِبل أي جهة تسعى نحو اعتراض ومواجهة عملية التبرع لكتائب القسام بواسطة العملات المشفرة.

المعركة مستمرة

رغم تأكيد شركة Binance تحققها من المستخدمين بحثا عن صِلاتهم بالإرهاب، وأنها “واصلت استثمار موارد هائلة لتعزيز برنامج الامتثال الخاص بها”، ظلَّت الاتهامات والإجراءات الإسرائيلية تلاحقها. (شترستوك)

منذ بدأت حملتها ضد محافظ العملات المشفرة التي تعود ملكيتها لشركات فلسطينية مرتبطة بحركة حماس، وحتى يناير/كانون الثاني الماضي، استولت إسرائيل على نحو 190 حسابا مشفرا في بورصة “Binance” المتخصصة بالعملات الرقمية والمشفرة. ووضعت هذه المصادرات أكبر بورصة للعُملات المشفرة في العالم من حيث أحجام التداول أمام اتهامات إسرائيلية وأميركية بعدم التزام معايير صارمة لمكافحة “غسيل الأموال” و”تمويل الإرهاب”.

ورغم تأكيد الشركة تحققها من المستخدمين بحثا عن صِلاتهم بالإرهاب، وأنها “واصلت استثمار موارد هائلة لتعزيز برنامج الامتثال الخاص بها”، ظلَّت الاتهامات والإجراءات الإسرائيلية تلاحقها، فيما اتبعت دولة الاحتلال سياسة تتمثل في الاحتفاظ بالمحافظ والحسابات التي تصادرها، مع تفريغها من الأموال وتحويلها مباشرة إلى ميزانية حكومة الاحتلال.

عموما، بات من الواضح أن الاحتلال قطع شوطا كبيرا خلال الأشهر الأخيرة في تعزيز قدرته على فك التشفير وتعقب الأموال الإلكترونية في سلاسل الكتل، ما يُسهِّل تحديد هويات مَن يقومون بتحويل العملة المشفرة. وقد تمكَّنت إسرائيل بفضل التكنولوجيا المتطورة الخاصة بها من تتبُّع المُرسِل والمُستقبِل بشتى الطرق الممكنة، التي قد تكون طرقا رسمية عبر التواصل مع الحكومات والجهات الرسمية، أو طرقا غير رسمية عبر الاختراق المتكرر لأصحاب حسابات المحافظ ومعرفة العناوين الخاصة بها وتتبعها. وبمجرد معرفة رقم محفظة تابعة لحماس، تتمكن أجهزة دولة الاحتلال من معرفة رصيد المحفظة كاملا والعمليات التي تمت بها.

رغم ذلك، يرى “أشرف مشتهي”، الخبير في أمن الحاسوب والمعلومات، أن تقنية البيتكوين تُعَدُّ آمنة جدا من حيث إمكانية نقل العملة الرقمية بين أي طرفين مباشرة، دون الحاجة إلى وجود طرف ثالث يعمل على تسهيل عملية النقل، أو حتى كشف حركات تنقل الأموال بين الأطراف المختلفة؛ مستدركا بالقول إن التهديد الأكبر يكون عند تحويل تلك الأموال الرقمية إلى مصرف أو ما شابه، لكي يقوم باستبدالها بالعملة النقدية الورقية التي نتداولها في حياتنا اليومية، حيث تكون تلك الحركات المالية الخاصة بكل مصرف تحت المتابعة على مدار الساعة، ومن خلالها يُمكن تحديد مسار الأموال، ومن ثمَّ تحديد المصدر الذي حوَّلها إلى المصرف. لذا يؤكد مشتهي، في حديثه “لميدان”، أن على حماس الاعتماد على وسائل مختلفة أخرى لتجاوز هذه المعوقات إن هي أرادت الاستمرار في الاعتماد على العملات الرقمية بعيدا عن أعين إسرائيل.

من جانبه، يعتقد “محمد أبو هربيد”، المتخصص بالتوعية الأمنية المجتمعية في وزارة الداخلية بغزة، أن المانحين وقعوا بالفعل تحت رصد أعين المخابرات الإسرائيلية والأميركية، ما دفع كتائب القسام إلى التخلي عن المشروع كاملا لعدم تعريض حياة المتبرعين للخطر. وأضاف أبو هربيد في حديث خصَّ به ميدان: “الاحتلال اهتم بشكل كبير بملف تبرعات حماس عبر البيتكوين من أجل السيطرة على الأموال وقرصنتها تحت ذريعة التبرع للإرهاب، فقد أغلق في بعض الحالات حافظات لم تقدم مساعدة للمقاومة، ما يعني أن الاحتلال وجد فرصة لقرصنة أموال بعض الفلسطينيين دون حتى أن يقوموا بالتبرع للمقاومة فعليا”.

واعتبر الخبير الغزاوي أن القسام في ذلك الوقت تعجَّل، وقدَّر أن الأمر مناسب لبدء استقبال التبرعات عبر البيتكوين، والدليل تراجعه بعد أن تأكد من أن سلبيات هذه الخطوة أكثر من إيجابياتها. في النهاية، ورغم الضغط الكبير من أميركا وإسرائيل، والمراقبة المستميتة لخنق جميع شرايين الاقتصاد التي قد تساعد المقاومة وغزة على تنفس الصعداء بما في ذلك مجال العملات الرقمية، فإن إبقاء حماس على هذا الباب مفتوحا ولو سِرًّا يظل واردا، حيث تُواصِل الحركة خوض معركة أخرى مع الاحتلال لا تقل شراسة عن معاركها العسكرية معه، هذه المرة على الشبكة العنكبوتية.

___________________________________________________________

هامش:

*يسمح القانون الإسرائيلي لوزير الدفاع بإصدار أوامر مصادرة للأصول التي تعتبرها الوزارة “ذات صلة بالإرهاب”.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post سعر الريال السعودى اليوم الثلاثاء 6-6-2023
Next post 8 مصريين يتأهلون لبطولة العظماء الثمانية فى ختام موسم الاسكواش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading