عرف التاريخ الإسلامي مهنة تُسمّى “المؤدِّب”، وهو رجل وظيفته تربية وتعليم الأطفال يماثل مدرس المرحلة الابتدائية في زمننا هذا، غير أن ذلك السلف القديم كانت مهمتهم أوسع وأشمل من مجرد التقيد بالمناهج الدراسية والتعليمية اليوم، كان منهجهم التعليمي والتربوي يتكئ على مصادر المعرفة الإسلامية من القرآن الكريم والسُّنة، وتعليم اللغة العربية والخط، كما أن تعليم الأخلاق والتربية والأشعار ومهارات القيادة والاختلاط بالناس كانت جزءا من المقرر الدراسي النظري والعملي الذي كان يتقلده “المربي” في تلك العصور؛ ولهذا نجدهم يُطلقون كلمة “المؤدّب” على صاحب هذه الوظيفة، وهي أدق وصفا، وأبلغ معنى من “المدرّس” أو “المعلّم” التي شاع استخدامها في يومنا هذا.
مؤدبو ولاة العهد والأمراء
وكثيرا ما وجدنا هؤلاء المؤدبين في بيوت وقصور الخلفاء الأمويين قبل ألف وثلاثمئة عام، وقلما خلا بيت خليفة أموي من مؤدّبين لأولادهم وأحفادهم، بل كانوا يُنتقون بعناية كبيرة وشديدة لأداء هذه المهمة الجليلة؛ حتى إن بعض الخلفاء الأمويين كانوا يمتحنونهم بأنفسهم، مثلما فعل معاوية بن أبي سفيان مع مؤدب ولده يزيد واسمه دغفل السدوسي، فقد “أرسل معاوية إلى دغفل فسأله عن العربية، وعن أنساب الناس، وسأله عن النجوم فإذا هو عالِم، فقال: يا دغفل من أين حفظتَ هذا؟ فقال: حفظت هذا بلسان سؤول وقلب عقول، وإن آفة العلم النسيان. قال: فاذهب بيزيد فعلِّمه العربية وأنساب قريش والنجوم”[1].
وجعل معاوية ابنه يحضر في مجالسه ويتعلّمُ من سياسته وتدبيره للمُلك وشؤون السياسة، وتعلم يزيد من عُبيد بن شرية الجهرمي، الذي استقدمه أبوه معاوية من صنعاء اليمن، وكان عالما بأيام العرب، وأحاديثها وله كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين، وقد تأثَّر يزيد بهذا الشيخ الحكيم الذي حنكته التجارب والسنون، وقد توفي عبيد بن شرية سنة 70هـ، وأصبح يزيد يتحدث عن الأنساب تحدُّثَ الخبير، حتى إن الذهبي قال في ترجمة عبد الصمد بن علي الهاشمي: “وكان في تعدُّد النسب نظير يزيد الخليفة”، دلالة على خبرة ومعرفة يزيد بن معاوية بأنساب العرب[2].
وسنرى أن معاوية كان دائم الاتصال بمؤدّبي ولده وولي عهده، كي يتعرف على ما أحرزه من علم وتربية، كما كان يسأل ابنه عن أحواله مع المؤدبين، فتُشير إحدى الروايات إلى أن معاوية سأله في أحد الأيام قائلا: أيضربك معلمك يا يزيد؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: ولِمَ؟ قال: لأنه استن بسنة أمير المؤمنين بالعدل. [3][4]. ومن اللافت أن نجد أثر هذه التربية في الحفيد معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية (ت64هـ)، الذي تنازل عن الخلافة طائعا خوفا من عواقبها وخطورتها، فبعد وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة 64هـ قرَّر ابنه معاوية الثاني ذو العشرين عاما التنازل، وبالفعل قام على المنبر وألقى خطبة بليغة جاء فيها: “ما كنتُ لأتحمل آثامكم، ولا يراني الله -جلَّت قدرته- متقلدا أوزاركم، وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم، فخذوه، ومَنْ رضيتم به عليكم فولُّوه، فلقد خلعتُ بيعتي من أعناقكم، والسلام”. وقد كان من جملة الأسباب الرئيسة التي دفعته إلى التنحي مؤدبه “القصوص”، الذي عَلَّمه الحقَّ من الباطل، وخطرَ الخلافة على آخرته؛ حتى إن بني أمية قالوا لمعلمه: أنت عَلَّمته هذا، ولَقَّنته إيَّاه، وصددته عن الخلافة[5].
وصايا الخلفاء والأمراء لمؤدبي أولادهم
وثمة نصيحة نُقلت عن الأمير الأموي عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية بن أبي سفيان لمؤدب أولاده تناقلتها المصادر التاريخية، وأشارت إليها بكثرة لفائدتها الكبيرة، جاء فيها: “أوصى عتبة بن أبي سفيان مؤدب ولده (يدعى عبد الصمد) فقال: ليكن أول إصلاحك بنيَّ إصلاحك لنفسك، فإن عيوبهم معقودةٌ بعيبك، فالحَسَن عندهم ما فعلتَ، والقبيح ما تركتَ، وعلِّمهم كتاب الله ولا تملهم فيتركوا، ولا تدعهم منه فيهجروا، ورَوِّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفَّه، ولا تُخْرجهم من علم إلى علم حتى يُحكموه، فإنَّ ازدحام الكلام في السمع مضلَّة للفهم، وهَدِّدهم بي وأدِّبهم دوني، وكن بهم كالطبيب الرفيق الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، وامنعهم من محادثة النساء، واشغلهم بسير الحكماء، واستزدني بآدابهم أزدك، ولا تَتَّكِلَنَّ على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك”[6]. وهذه الوصية التربوية تبين إلى أي مدى بلغت ثقافة وفقه الأسرة الأموية الحاكمة وقتئذٍ.
وفي الحقبة المروانية التي تبدأ من عام 65هـ حتى نهاية الخلافة الأموية عام 132هـ، التي بدأها مروان بن الحكم، ومن بعده ابنه عبد الملك وأولاده وأحفاده، اهتمَّت هذه الأسرة الحاكمة بتربية أبنائها اهتماما كبيرا زائدا؛ حرصا منها على المثل الذي يجب أن يكون عليه أمير المؤمنين في الأخلاق والعلم وتدبير شؤون الحكم، وثمة وصية لافتة قالها الخليفة عبد الملك بن مروان (ت86هـ) لمؤدب أولاده، جاء فيها: “عَلِّمهم الصدق كما تُعَلِّمهم القرآن، وجنبهم السِّفلة فإنهم أسوأ الناس دعة، وأقلُّهم أدبا، وجنِّبهم الحَشَم فإنهم لهم مفسدة، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضا، ويمصوا الماء مصّا، ولا يعبوا عبّا، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في سرٍّ لا يعلم به أحد من الغاشية فيهونوا عليهم”[7].
وهذه الوصية تبين إلى أي مدى وصلت وظيفة المؤدب من حيث شمولية الأهداف والرسالة التي كانت تقوم عليها وظيفته حينذاك؛ حتى إنه كان مسؤولا عن أدق تفاصيل حياة هؤلاء الأمراء في المأكل والمشرب واستخدام السواك، وحتى اللعب والضحك وأوقاته.
واشتهرت أيضا في ذلك العهد والعهود التالية وصية الخليفة هشام بن عبد الملك لمؤدب ولده، ونتبين فيها تقدما ملحوظا آخر في نوع وطريقة التربية من حيث الاحتكاك بالرعية سواء في تعلم لغة العرب، أو السماع لمشكلاتهم وطرائق حلِّها، وقد ذكرها الراغب الأصفهاني بقوله: “أوصى هشام بن عبد الملك سليمانَ الكلبي لَمَّا اتخذه مؤدبا: إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني وقد وَلَّيْتُك تأديبه، فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة فيه بخلال (صفات): أوَّلها أنك مؤتمن عليه، والثانية أنا إمام ترجوني وتخافني، والثالثة كلما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتقيتَ معه، وفي هذه الخلال ما يُرَغِّبك في ما أوصيك به، أن أول ما آمرك به أن تأخذه بكتاب الله وتُقرئه في كل يوم عشرا يحفظه حفظ رجل يُريد التكسُّب به، ثم روِّه من الشعر أحسنه، ثم تخلَّل به في أحياء العرب فخذ من صالح شعرهم هجاء ومديحا، وبصِّره طرفا من الحلال والحرام، والخطب والمغازي، ثم أجلسه كل يوم للناس ليتذكر”[8].
وكان معيار قدرة المؤدِّب ونجاحه واشتهاره بين الناس يُقاس بمدى ما أحرزه واقعيا من تقدّم تربوي وتعليمي في مستوى الأطفال والصبيان ومدى نجاحهم، فهم صورة عمله وانعكاس لجهوده، وكان بعض ولاة بني أمية يزجرون مؤدّبي أولادهم إذا رأوا تخلف أبنائهم مقارنة بما كانوا يرونه في الأطفال والصبيان الآخرين، وما كانوا يزجرون هؤلاء المؤدبين إلَّا لكونهم يُريدون أولادهم في المرقاة العليا في الأدب والفصاحة، وقد حكى لنا العلامة اللغوي الأصمعي قصة تبين أهمية المؤدبين في العصر الأموي، قال الأصمعي: “مثُل فتى بين يدي الحجاج بن يوسف فقال: أصلحَ الله الأمير، مات أبي وأنا حمل، وماتت أمي وأنا رضيع، فكفّلني الغرباء حتى ترعرعتُ، فوثب بعض أهلي على مالي واجتاحه، وهو هارب مني ومن عدل الأمير. فقال الحجاج: الله، مات أبوك وأنت حمل، وماتت أمك وأنت رضيع، وكفلك الغرباء، فلم يمنعك ذلك من أن فصح لسانك وأنبأت عن إرادتك. اطردوا المؤدبين عن أولادي”[9].
وكان المؤدب إذا غالى في تعظيم وتوقير أبناء الخلفاء عنفه وأدَّبه الخليفة بالكلام والخطاب، فقد رُوي أن عمر بن عبد العزيز قد بعث “بنين له إلى الطائف ليقرأوا القرآن، فتعلم عبد العزيز وكان أكبرهم، فلما حضر رمضان قدَّموه فيمَنْ يؤُمُّهم ثم كتب إلى عمر يبشر بذلك، فكتب إلى صاحبه يلومه ويقول: “قَدَّمت مَنْ لم يحتنكه (لم تعلمه التجارب) السنُّ، ولم تدخله تلك النية إمام المسلمين في صلاتهم”[10].
مؤدبون يتقلدون المناصب العليا
ولم تكن وظيفة مؤدّب الأطفال تحدّ من سقف الارتقاء الوظيفي؛ ذلك أن الرجلَ منهم كان إذا برع في أداء المهمة الموكلة إليه، وأصبح الأطفال في موضع الرضا من حيث الأدب والبلاغة والعلم بأحوال الناس والمجتمع، ألحقوه إلى الوظائف العالية، حتى إن بعض هؤلاء المؤدبين بلغ إلى درجة مستشار الخليفة ووزيره، وبعضهم إلى القضاء، وآخرين إلى رُتبة أهم وأخطر هي ولاية أقطار العالم الإسلامي.
فمن أشهر هؤلاء الذين ارتقوا إلى منصب الولاية كان الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق وشرق العالم الإسلامي الأشهر والأخطر، الذي كان في مبتدأ أمره معلِّما ومؤدِّبا للأطفال أوصلته شهرته ليكون واليا على العراق وخراسان بل والحجاز أيضا، قال العصامي: “أول أمر الحجاج أنه كان معلما للصبيان، وكان يُسمى كليبا” [11].
وهناك من أمثال الحجاج بن يوسف من المؤدبين مَنْ تَرَقَّى ليصل إلى بعض وظائف الدولة العليا الأخرى، لا سيما وظيفة القضاء، ومن هؤلاء “الوليد بن أبي مالك الهمداني، قاضي عمر بن عبد العزيز على نواحي دمشق”، وكان قبل أن يبلغ هذه الوظيفة صاحب مكتب (كُتّاب) في مدينة الكوفة لتأديب وتعليم الأطفال[12]. وكانت شهرة ابن أبي مالك الهمداني مؤدِّبا قد جعلته ينتقل من مدينة إلى أخرى نتيجة لحاجة الناس إلى علمه وخبرته، وفي خبر وفاته يقول المؤرخ والحافظ ابن عساكر في تاريخه: “سنة خمس وعشرين ومائة فيها مات الوليد بن أبي مالك الهمداني، وهو من أهل الشام وكان مكتبه بالكوفة”[13].
ولقد كان اختيارُ مؤدبي أولاد الخلفاء خاصة يكون بناء على علمهم وجهادهم وتقواهم ونجاحهم وإجماع الناس عليهم، ومن ثَمَّ براعتهم في أداء المهمة الموكلة إليهم، ثم تأتي مرحلة الترقية إلى الوظائف العليا، هذا الأمر نجده كذلك عند العالِم والتابعي إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، الذي “كان مؤدبا لولد عبد الملك بن مروان، ورأى عمر بن عبد العزيز قدرتَه وحكمته وعلمه وثقته فعينه واليا على إفريقية (تونس)”[14].
ومن هؤلاء المعلّمين أو المؤدّبين مَن ارتقى إلى رتبة الوزارة والكتابة، وكانت هذه المهمة من أعلى المناصب في الدولة لارتباطها بمراسيم وقرارات الخلفاء لعُمّالهم وولاتهم؛ حتى إنها كانت تلي الخليفة مباشرة من حيث الأهمية، ونحن نعرف أن عبد الحميد الكاتب يُعدُّ مِن أشهر الكُتّاب في تاريخ النثر والأدب العربي كله، وقد ذاعت طرائق كتابته وإنشائه وصارت مثالا يُحتذى، بل كان مدرسة وحده، تَعَلَّم المنشئون والكتاب منه، وبلغ هذا الرجل منصب الوزارة في خلافة مروان بن محمد بن مروان (ت132هـ) آخر خلفاء بني أمية، وإذا نظرنا في سيرته الذاتية وتاريخه المبكر فسنراه قد اشتهر وذاع صيته معلّما للصبيان ومؤدبا لهم قبل أن يرتقي إلى وظيفة الكتابة والترسُّل في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية[15].
وحسبنا من تلك النماذج أنها بيّنت لنا بعض ملامح وظيفة التأديب والتربية والتعليم التي كان يقوم عليها “المؤدّب” في تاريخ الدولة الأموية الأولى فضلا عن الدول التالية، ومدى أهميتها في تنشئة أجيال الخلفاء والأمراء وولاة الأمر والقادة وحتى عامة الناس، ولا شك لدينا أن جيلا مهما وأصيلا من المؤدّبين العلماء الذين انتشروا في جميع أقطار العالم الإسلامي في ذلك الوقت كان لهم أعظم الأثر في تخريج أجيال من الخلفاء والعلماء والقادة والتجار الناجحين في ذلك العهد.
————————————————————————-
المصادر
([1]) الطبراني: المعجم الكبير 4/226 ح4202.
([2]) الذهبي: سير أعلام النبلاء 9/130.
([3]) (محمد: 2).
([4]) الصلابي: الدولة الأموية 1/472، 473.
([5]) العصامي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 2/97.
([6]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 38/271.
([7]) الدينوري: المجالسة وجواهر العلم ص380.
([8]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 22/331.
([9]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 12/166.
([10]) محمد بن نصر الروزي: مختصر قيام الليل وقيام رمضان وقيام الوتر ص242.
([11]) العصامي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 2/139.
([12]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 63/155.
([13]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 63/158.
([14]) ابن أبي حاتم الرازي: الجرح والتعديل 2/182.
([15]) ابن الدمياطي: المستفاد من ذيل بغداد 1/115.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.