– آآ، نعم، نعم، لقد تلقيت عرضا رائعا من تشيلسي في آخر لحظة، إنه عرض لا يمكن رفضه.
* إحم، تشيلسي؟ ألا تقصد مانشستر سيتي؟
– آآ، نعم، مانشستر سيتي طبعا! ماذا قلت؟!
كان هذا روبينيو، يخبر الصحفيين -بطريقة مبتكرة لم تخطر لأحد- بحقيقة ما حدث ليلة الأول من سبتمبر/أيلول عام 2008، ريال مدريد كان قد قرر التخلص من الجناح البرازيلي بعد فشله في الوفاء بوعده بالتحول إلى رونالدينيو الجديد، أو ربما بعد وفائه بهذا الوعد أسرع من اللازم، لسنا متأكدين صراحة، المهم أن تشيلسي قدم عرضا أسال لُعاب فلورنتينو بيريز، وأسال لعاب روبينيو كذلك طبقا للتقارير الصحفية، لأنه -مفاجأة- كان معجبا بفكرة العيش في لندن، حيث متاجر التسوق والحياة الليلية الصاخبة (1).
كان هذا طبعا قبل أن تنفذ مجموعة أبو ظبي دخولها المفاجئ بآخر لحظة في نافذة الانتقالات، وتعلن شراءها نادي مانشستر سيتي، وتعرض على بيريز مبلغا أكبر للحصول على خدمات البرازيلي، فيوافق بدوره على الفور، ويفاجئ روبينيو بأن وجهته قد تغيرت، ثم يُلقي به إلى أفواه المراسلين الجائعة.
هذه قصة حقيقية تماما بالمناسبة ولا مبالغة فيها، وستجدها مُدرَجة في قصص “أغرب انتقالات في تاريخ اللعبة” و”أكبر لحظات الإحراج الصحفية في كرة القدم” وغيرها، في الواقع لقد أدرجناها في تقرير مشابه منذ سنوات (2).
المفاجأة أن قصة مبابي هذه المرة تبدأ بلحظة محرجة مشابهة.
25-24=روبينيو
قصة المهاجم الفرنسي مع ريال مدريد لها جذور قد تعود لطفولته، ولكن هذا الفصل منها يبدأ في صيف 2021، عندما أرسل ريال مدريد عرضا قيمته 160 مليون يورو إلى باريس للحصول على مبابي، اللاعب الذي كان يتبقى في عقده -حينها- موسم واحد فقط (3).
طبعا بمعايير الصفقات الحقيقية، هذا يعني أن مبابي كان سيصبح أغلى لاعب في تاريخ اللعبة بلا منازع، أغلى حتى من نيمار الذي أنفق باريس 220 مليون يورو للحصول على خدماته، لأن قيمة الصفقة في سوق الانتقالات تُقدر بتكلفة الفرصة البديلة، وتكلفة الفرصة البديلة هنا هي انتظار عقد اللاعب حتى ينفد، أي النادي فعليا لا “يتعاقد” مع اللاعب، بل “يشتري السنوات المتبقية في عقده” ليحصل على خدماته الآن، بدلا من أن ينتظر هذه السنوات بدونها.
المال مقابل الوقت، هذه هي المعادلة، وبهذه المعادلة كان مبابي سيصبح أغلى لاعب في التاريخ بـ160 مليون يورو مقابل موسم واحد فقط، ويليه في الترتيب إدِن هازارد من تشيلسي إلى ريال مدريد أيضا بـ130 مليون يورو مقابل موسم واحد فقط أيضا.
المهم أنه -كما قال روبينيو للمفارقة- كان عرضا لا يمكن رفضه، خاصة أن باريس كان مهددا بخسارة مبابي بلا مقابل نهائيا بعد موسم واحد فقط، ولكن إدارة النادي الفرنسي رفضت العرض وقررت استخدام كل أسلحتها للضغط على مبابي للاستمرار، وكان لها ما أرادت، بعقد حوّل مبابي إلى أعلى لاعبي العالم أجرا، متفوقا على كلٍّ من ميسي ورونالدو، في مكانة لم يشغلها أحد غيرهما طيلة العقد الماضي (4) (5).
بعد أيام أو ساعات أو أسابيع، لا نذكر بالضبط، كان مبابي يقف في حديقة الأمراء بحُلة سوداء أنيقة، مرتديا ساعة من علامة “أوبلو” (Hublot)، أحد شركائه الرئيسيين، حاملا قميص باريس سان جرمان الذي يحمل اسمه، وأسفله رقم “2025” بعد تجديد عقده، وكان هذا ما أعلنه النادي رسميا عبر منصات التواصل والمؤسسات الصحفية، ولكن، مع الأسف، لم يكن هناك صحفي يسأل السؤال البديهي: “2025؟ هل تقصدون 2024؟”.
دخول مفاجئ
صدِّق أو لا تُصدِّق، 30 يونيو/حزيران 2024 -وليس 2025- هو مدى عقد كيليان مبابي الحقيقي، والرقم الذي حمله القميص لم يكن مُعبِّرا عن الواقع الحقيقي للصفقة، لأن الجميع يعلم أن الجميع لا يقرأ بنود الصفقة الفعلية (5).
ما وقّع عليه المهاجم الفرنسي فعلا كان تمديدا لموسمين فقط، مع خيار إضافي بالتمديد لموسم إضافي واحد. ما أُعلن -بطريقة غير مباشرة- كان تجديدا لثلاثة مواسم إضافية. كل هذا لم يكن مُهما لدرجة كبيرة، حتى أرسل كيليان خطابا رسميا إلى النادي، مساء يوم 13 يونيو/حزيران الحالي، يخبرهم فيه أنه لا ينوي تفعيل خيار الموسم الإضافي. هذا يعني أن باريس، ورغم التجديد براتب قياسي ومكافأة توقيع ضخمة، وجد نفسه في الموقف ذاته مجددا بعد موسم واحد فقط (6).
بالنسبة إلى إدارة باريس، كل ما في الأمر كان مزعجا: أولا، وبحسب آدم كرافتون وماريو كورتيخانا، صحفيَّي “ذا أثلتيك” (The Athletic)، فخيار التجديد لم يكن تلقائيا، بالإضافة إلى كون الطرف الوحيد القادر على تفعيله هو مبابي نفسه، أي إن الحالة الوحيدة التي كان يحتاج فيها اللاعب إلى مخاطبة النادي رسميا بخصوص عقده هي لو أراد تفعيل التجديد، لا إلغاءه، ومجرد صمته كان كفيلا بتسيير الأمور كما أراد وإنهاء العقد رسميا في 30 يونيو/حزيران 2024، ولكنه، فيما يبدو، أراد إعلان الأمر للعالم (5).
ثانيا، أكدت تقارير صحفية عدة تواصل اللاعب مع فلورنتينو بيريز منذ رفض عرضه الخيالي في 2021 وتوقيع التجديد ذاته، بل واعتذاره لرئيس النادي الأنجح في التاريخ، وتكرار التواصل بين محيط الثنائي، وتحديدا منذ نهاية كأس العالم 2022 بقطر، تمهيدا لعودة محتملة، وهو ما أكده مقطع مصور قصير نُشر قبل أيام من خطاب مبابي يؤكد فيه بيريز أنهم -يقصد ريال مدريد- سيتعاقدون مع مبابي “ولكن ليس في العام الحالي” (5) (7).
ثالثا، إحم.. ثالثا قد تكون محرجة نوعا ما، لأن.. في الواقع.. حسنا، هل سمعت عن التقارير الصحفية التي زعمت بأن شروط التجديد تضمنت “دورا استشاريا” لمبابي في الصفقات الجديدة المحتملة والمرشحين لدورَيْ المدير الفني والمدير الرياضي؟ الآن تدعي بعض التقارير الصحفية الأخرى أن تلك المزاعم لم تكن مجرد مزاعم، ولم تكن حقائق مؤكدة كذلك، وأن الإجابة قد تقع في مكان ما بين هذا وذاك (7).
بدأ الأمر مع تعيين لويس كامبوس، الكشّاف الأسبق بريال مدريد، والرجل الذي قاد الإدارة الرياضية لأندية ليل وموناكو تواليا، وقاد كلًّا منها للقب الدوري الفرنسي بقدرته الخرافية على تجميع قوائم ممتازة من اللاعبين بإمكانيات شبه منعدمة. كامبوس كان أحد حاضني موهبة مبابي الناشئة في موناكو، ومن هنا ثار الدخان حول “أدوار مبابي المتزايدة في النادي” (5) (7).
قائمة المشتريات
يحكي كورتيخانا، عبر العديد من المصادر المقربة للاعب والناديين، التي رفضت الإفصاح عن هويتها، أن مبابي كان قد حدد 3 أسماء رئيسية لضمها بعد إتمام التجديد في الصيف الماضي: أوريليان تشواميني، وروبرت ليفاندوفسكي، وميلان شكرينيار (7).
كما تعلم طبعا فالأول انضم إلى ريال مدريد، والثاني إلى برشلونة، والثالث بقي في إنتر حتى نهاية عقده، بل وفقد موقعه في التشكيل الأساسي كذلك. الأزمة الثانية وقعت عندما بدأ مبابي يشعر أن التعاقد مع ميسي دفع نيمار للطرف، وهذا بدوره دفعه شخصيا لدور أكثر محورية في العمق، وحرمه من انطلاقاته المعتادة على اليسار، حيث يُفضِّل التوغل لعمق الملعب قُطريا بمراوغة المدافعين على أقدامهم الضعيفة، ثم تطور الأمر إلى صراع شبه مفتوح ضد البرازيلي عندما ثارت الخلافات بينهما على ركلات الجزاء، ثم في سبتمبر/أيلول الماضي تأكدت الشائعات عندما سُئل نيمار عن علاقته بمبابي عقب ودية ضد غانا في فرنسا، وكان رده الوحيد زفيرا غاضبا مستهزئا ترك بعده منطقة الصحفيين (7).
التوتر بين مبابي وإدارة باريس ازداد في أبريل/نيسان الفائت، عندما نشر النادي مقطعا دعائيا مصورا لحاملي التذاكر الموسمية، يحمل عبارات ترويجية على لسان اللاعب، ولم يكن مبابي -فيما يبدو- قد أُبلغ بنية النادي استخدامها بتلك الطريقة تحديدا، أو هذا ما أظهره منشوره اللاحق على إنستغرام.
“شاهدت للتو حملة النادي لتجديد التذاكر الموسمية لموسم 2023-2024. أود أن أنوه أنني لم أُبلَّغ بمحتوى تلك المقابلة مسبقا، وبدت مقابلة عادية لإدارة التسويق بالنادي. أود أن أنوه كذلك أنني لا أوافق على محتوى المقطع، ولهذا السبب أحارب لأجل استقلالية حقوق صورتي. باريس سان جرمان نادٍ كبير وعائلة كبيرة، ولكنه ليس كيليان سان جرمان”.
نعلم أن هناك ألف سؤال في رأسك الآن، لذا دعنا نبدأ أولا بشرح معنى “حقوق الصورة التجارية” (Image Rights)، وهي ببساطة تشتمل على كل ما يمكن اعتباره ملكا للاعب وحده، مثل اسمه، ولقبه، سواء كان عائليا أو مجرد لقب متعارف عليه، وصورة وجهه وجسمه بالطبع، وأي علامات مميزة قد يحملها مثل الوشوم أو الأقراط أو العصابات وغيرها. باختصار، كل ما يشير إليه بشكل حصري مميز عن أي لاعب آخر، وتحديدا كل ما قد يُستخدم في الدعاية لهذا المنتج/الشخص/الشركة/الكيان الاعتباري أو ذاك (8) (9).
كيليان كان، ولا يزال، يدير حقوق صورته بطريقة مميزة واستثنائية، فقد قرر منذ زمن بعيد، مع وكيلته ووالدته الجزائرية الأصل “فايزة العمّاري”، أن يربط اسمه بمجموعة حصرية منتقاة من الشركاء التجاريين شديدي النخبوية، الذين -بدورهم- سيضعونه في شريحة مختلفة عن باقي اللاعبين.
أغلب اللاعبين، مثل نيمار على سبيل المثال، يعتمدون سياسة “المدفع الرشّاش” (Scatter Gun) في التعاقد مع المعلنين والرعاة والشركاء التجاريين، البرازيلي يملك 24 شريكا متنوعا، بينما كيليان قرر قصر القائمة على 4 فقط (10): علامة الساعات السويسرية “أوبلو” (Hublot)، وعلامة المناظير الأميركية “أوكلي” (Oakley)، ومواطنتها في ألعاب الفيديو “EA Sports”، وبالطبع شركة الملابس والمعدات الرياضية الشهيرة “نايكي” (Nike).
يعتقد أغلب اللاعبين أن الكم يجلب الكم، بينما يعتقد مبابي أن الكيف يجلب الكم، وهذا الاعتقاد صحيح طبعا إن كنت مبابي، لأن تلك الشراكات جعلته أعلى لاعبي العالم دخلا في الموسم المنصرم. المفاجأة هنا أنه وصل إلى تلك المكانة وهو لا يملك تحكما كاملا في حقوق صورته التجارية، التي ينازعه فيها باريس سان جرمان بحسب العقد الحالي والعقود الماضية.
بيريز يخضع
المفاجأة الأكبر أن هذا لم يكن مشكلة فيما مضى لسببين: أولا، من المنطقي أن يحصل النادي على جزء من حقوق صورة النجم التجارية ما دامت الشروط عادلة في سياقها، ببساطة لأنها جزء من الأرباح التي تعود على النادي لقاء التوقيع مع النجم ذاته، ومنحه راتبا ضخما، ومزايا أخرى لا حصر لها.
ثانيا، مبابي كان يعلم أنه سيضطر للتخلي عن النسبة ذاتها أو نسبة مقاربة من حقوق صورته التجارية عندما يحقق حلمه بالانتقال إلى ريال مدريد. في الواقع، كان هذا -وما زال- تقليدا تاريخيا لا مساس به في العاصمة الإسبانية، صحيح أننا نتعاقد مع أكبر النجوم، ولكن صحيح أيضا أننا أكبر نادٍ في العالم، ولذلك فمن المنطقي أن نحصل على جزء من حقوق صورة هؤلاء النجوم، لأنهم يستفيدون من وجودهم في ريال مدريد كما يستفيد النادي من وجودهم.
الوحيد الذي استُثني من تلك القاعدة في مدريد كان، لا تتفاجأ من فضلك، كريستيانو رونالدو. وفي التجديد الأول عام 2013 قرر التفاوض مع النادي على التحكم في حقوق صورته كاملة، وبعد صراعات مع بيريز كان له ما أراد. بالمناسبة هذا ما يفسر راتبه المتدني نسبيا حتى في ظل نجاحاته المتكررة بدوري الأبطال، وتسريبات بيريز شديدة العدائية ضده في 2012 أثناء التفاوض على التجديد (11) (12).
رونالدو باع حقوق صورته للملياردير السنغافوري “بيتر لِم” في 2013، ومن حينها تضاعفت مكاسبه منها لأرقام لا يكفي هذا التقرير -أو أي تقرير آخر- لحصرها، وهو ما تسبب في شرخ علاقته بالرئيس بلا رجعة، لأن الأخير كان يشاهده يجمع مئات الملايين من حقوق صورته منفردا دون أن يكون لريال مدريد، النادي الذي يرى بيريز أنه كان له أكبر الأثر في ازدياد شعبيته ونجوميته، أي نصيب منها، وهو أيضا ما دفعه للتفريط فيه بسهولة بمجرد إعلانه العصيان بعد نهائي كييف (13).
كل ذلك يقودنا إلى المفاجأة الأكبر في تلك القصة، صدِّق أو لا تُصدِّق، فلورنتينو بيريز مستعد لمنح مبابي 100% من حقوق صورته التجارية في حال توقيعه لناديه، طوعا، وبلا نزاعات من أي نوع (5) (7).
هذه النقطة تحديدا كانت محل الجدل الرئيس بين بيريز وفايزة العمّاري فيما مضى، الأول لم يكن يرغب في تكرار تجربة البرتغالي وخسارة أموال طائلة من حقوق صورة مبابي الخرافية على مدى سنوات، والثانية كانت ترى أن ريال مدريد عليه تقديم ما هو أكثر ليُغريه بالانتقال من باريس، لسبب واضح وبسيط هو أن مبابي قد يحتاج إلى ريال مدريد ليصنع تاريخا أكبر في اللعبة، ويحقق المزيد من الألقاب، يأتي على رأسها دوري الأبطال طبعا، ولكنه في الوقت ذاته لا يحتاج إلى ريال مدريد ليصبح أعلى لاعبي العالم أجرا، لأنه كذلك بالفعل.
هل كان هذا التغير المفاجئ سببا في إعلان مبابي عدم نيته التجديد الآن؟ ربما. ما نعلمه يقينا هو أن باريس لا ينوي خسارته بلا مقابل في الصيف القادم، وقد يسعى لبيعه في الصيف الحالي ليعوض خسائره من جهة، وليتجنب اضطراره لدفع مرتبه الباهظ لموسم إضافي من جهة أخرى.
هل يعني ذلك أنك قد ترى مبابي قريبا في حُلة سوداء أنيقة مرتديا ساعة من علامة “أوبلو” يبلغ ثمنها عشرات الآلاف من الدولارات وهو يحمل قميص ريال مدريد موقعا باسمه والرقم 2029؟ ربما أيضا. لكن الأكيد أننا بصدد جولة أخرى من عض الأصابع بين مبابي وباريس وبيريز. الأول أعلن أنه سعيد في باريس وينوي الاستمرار حتى 2024، وبالإضافة إلى الراتب الضخم فهذا يمنحه مزية الحصول على مكافأة توقيع ضخمة عندما ينتقل إلى ريال مدريد باعتباره لاعبا حرا في صيف 2024، ويعني في المقابل خسائر لباريس، ليس أقلها حقيقة أن نجمهم الأول سيرحل مجانا بعد رحيل ميسي بالفعل وخروج نيمار المتوقع (14).
صدِّق أو لا تُصدِّق، بيريز، الرجل الذي خضع لمطالب مبابي ووالدته سابقا، هو مَن يملك كل الخيوط الآن، ومصير الثنائي متوقف على قراره، وتقديره لمدى احتياج الفريق إلى تعاقد كهذا في الصيف الحالي، خاصة بعد رحيل بنزيما المفاجئ وتردد هاري كين في ترك البريميرليغ، ولكن قبل كل ذلك، اختياره بين الانتقام من مبابي، أو باريس.
______________________________________________
المصادر:
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.