يعكف الجيش الإسرائيلي حاليا على تنفيذ واحدة من كبرى المناورات العسكرية في تاريخه تحاكي تفجر مواجهة شاملة على عدة ساحات في آن.
وتختبر المناورة التي أطلق عليها “اللكمة القاضية”، والتي انطلقت أوساط الأسبوع الماضي وستتواصل لمدة أسبوعين، القدرات العملياتية لجيش الاحتلال على الصعيدين الهجومي والدفاعي، فضلا عن فحص مدى جاهزية الجبهة الداخلية الإسرائيلية لتحمل تبعات تعرضها للاستهداف انطلاقا من لبنان، سوريا، إيران وغزة.
جاء تنفيذ هذه المناورة نتاج توصل القيادات السياسية والعسكرية في تل أبيب إلى استنتاج مفاده أن فرص اندلاع مواجهة شاملة متعددة الساحات تعاظمت مؤخرا بشكل كبير.
وحسب المنطق الإسرائيلي فإن تفجر مواجهة متعددة الساحات يمكن أن يكون نتاج أحد تحولين أساسيين:
- أولا: إقدام إيران أو أحد الأطراف التي تشكل المحور الذي تقوده على مباغتتها باستهداف عمقها الداخلي بالصواريخ أو المسيّرات الهجومية، حيث تتخوف إسرائيل بشكل خاص من إقدام حزب الله تحديدا على مثل هذا الهجوم. وقد دقت المناورة التي نظمها حزب الله مؤخرا على الحدود مع فلسطين والتي حاكت هجوما عبر الحدود يتم فيه السيطرة على إحدى المستوطنات شمال إسرائيل، ناقوس الخطر لدى صناع القرار في تل أبيب. فخلال مشاركته في المؤتمر السنوي الذي نظمته جامعة رايخمان “هرتسليا” الأسبوع الماضي حذر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أهارون حاليفا من إقدام زعيم حزب الله حسن نصر الله على “خطأ” يمكن أن يفضي إلى مواجهة شاملة.
- ثانيا: أن تتخذ إسرائيل ذاتها قرارا بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية بهدف تدميرها في أعقاب مواصلة إيران تطوير برنامجها الذري، كما عكست ذلك تقارير اللجنة الدولية للطاقة الذرية التي صدرت الأسبوع الماضي وتحدثت عن تمكن طهران من تخصيب كمية من اليورانيوم كافية لإنتاج قنبلتين ذريتين.
تفترض إسرائيل أن توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية سيدفع طهران والأطراف التي تشكل الحلف الإقليمي الذي تقوده إلى الرد عبر استهداف العمق الإسرائيلي ومحاولة اقتحام الحدود عبر عمليات تسلل بري. وقد وجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بالفعل تهديدا مباشرا لإيران عندما توعد بأن إسرائيل “ستفعل كل ما يتوجب عليها فعله من أجل منعها من الحصول على سلاح نووي”.
وبغض النظر عن طابع السيناريو الذي يمكن أن يقود إلى تفجر مواجهة متعددة الساحات، فإن اندلاع مثل هذه المواجهة يمكن أن يلحق بعمق إسرائيل الداخلي أضرارا هائلة لم يسبق لهذا العمق أن تعرض لها في كل الحروب التي خاضها الإسرائيليون منذ حرب 1948.
فالواقع الجيوإستراتيجي يجعل لهجمات مكثفة بالصواريخ والمسيّرات الهجومية على العمق الإسرائيلي كلفة باهظة الثمن. فتكدس أكثر من 70% من الثقل الديمغرافي وحوالي 80% من المرافق الحيوية العسكرية والمدنية الإسرائيلية في شريط جغرافي ضيق على الساحل يجعل من اندلاع مواجهة متعددة الساحات يتم فيها استهداف هذا الشريط بكثافة بمثابة سيناريو رعب للقيادتين السياسية والعسكرية في تل أبيب.
ونظرا لحيازة كل من إيران وحزب الله تحديدا على صواريخ ذات دقة إصابة عالية فإنه سيكون بوسعهما تدمير الكثير من المرافق العسكرية ذات الارتباط المباشر بقدرة إسرائيل على مواصلة الجهد الحربي. فعلى سبيل المثال، بإمكان الصواريخ ذات قدرة الإصابة العالية استهداف القواعد الجوية والمطارات العسكرية بشكل يمكن أن يفضي إلى تقليص إسهام سلاح الجو في الجهد الحربي، على الرغم من أن هذا السلاح يمثل رأس الحربة في أي مواجهة عسكرية تخوضها تل أبيب. فضلا عن أن مثل هذه الصواريخ يمكن أن تهدد أيضا مرافق مدنية حيوية، مثل محطات تحلية المياه، ومحطات توليد الطاقة، ومنصات استخراج الغاز وغيرها.
صحيح أن إسرائيل يمكنها أن ترد باستخدام قوة عسكرية غير متناسبة تلحق أضرارا كبيرة جدا تحديدا بلبنان لكن هذا لن يمثل عزاء للذين ستترك فيهم نتائج هذه المواجهة صدمة نفسية عميقة الأثر.
وإن كانت منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية لم تتعاط بنجاعة كبيرة مع الصواريخ التي أطلقها “الجهاد الإسلامي” من قطاع غزة في المواجهة الأخيرة، وعلى الرغم من أن قدرات هذا التنظيم الصاروخية تعد متواضعة جدا، فإن قدرة هذه المنظومات على تأمين العمق الإسرائيلي ستكون متدنية إلى حد كبير في حال نشبت مواجهة تشارك فيها إيران وحزب الله.
وإذا كانت الأمور على هذا النحو، فكيف يمكن الحكم على مدى جدية التهديدات الإسرائيلية بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية بشكل يمكن أن يفضي إلى تفجر المواجهة متعددة الساحات؟
في الحقيقة، إن إسرائيل ترى في حصول إيران على سلاح نووي تهديدا وجوديا لها، ليس فقط انطلاقا من مخاوفها من إمكانية أن يستخدم هذا السلاح ضدها، بل أيضا لإدراكها أن التسليم بتحول طهران إلى قوة نووية سيمنح دول المنطقة الأخرى، وتحديدا السعودية، ومصر، وتركيا الشرعية للسعي للحصول على هذا السلاح. وهذا لا يعني فقط أن إسرائيل ستخسر تفوقها النوعي على الصعيد الإستراتيجي، بل أيضا ستتقلص قدرتها على الدفاع عن نفسها.
على سبيل المثال، إسرائيل ستأخذ بعين الاعتبار مواقف القوى الإقليمية النووية الأخرى عند بلورة سياساتها تجاه الساحات: الفلسطينية، اللبنانية، السورية وغيرها، مما يقلص من هامش المناورة المتاح لها في تحقيق مصالحها، كما تملي ذلك المنطلقات الأيديولوجية للأحزاب التي تشكل ائتلافاتها الحاكمة.
لكن إسرائيل في الوقت ذاته، تعي أن إقدام إيران على زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم حتى بالمستوى اللازم لإنتاج السلاح النووي، لا يعني أنه سيكون بإمكانها إنتاج السلاح النووي، حيث إن طهران ستكون مطالبة أيضا بدمج اليورانيوم المخصب في رأس حربي ليتحول إلى رأس نووي، فضلا عن الحصول على منظومات صاروخية باليستية قادرة على حمل الرأس النووي.
وتجمع التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية والأميركية والغربية على أن إيران لم تقم حتى الآن بأي خطوة نحو إنتاج الرأس الحربي النووي، حيث تجمع هذه التقديرات على أن القيادة الإيرانية لم تتخذ أي قرار بإنتاج الرؤوس النووية.
في الوقت ذاته، فإن إسرائيل تعي أن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام الخيار العسكري ضد إيران فقط في حال قررت التوجه نحو إنتاج السلاح النووي، حيث لا تعتبر واشنطن أن زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم مسوغا لتوجيه ضربة لمنشآت طهران الذرية.
إلى جانب ذلك، فإن هناك شكوكا حول قدرة إسرائيل على توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية؛ حيث نفى كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت ورئيس جهاز الموساد السابق تامير باردو أن يكون بحوزة إسرائيل الإمكانيات العسكرية التي تؤهلها لتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية.
ولا يحسّن الانقسام الداخلي والتشظي المجتمعي الذي تعيشه إسرائيل حاليا نتاج طرح حكومة نتنياهو التعديلات القضائية، من قدرة إسرائيل على الإقدام على مغامرة عسكرية كبيرة تفضي إلى تفجر مواجهة متعددة الساحات.
من هنا يمكن النظر إلى مناورة “اللكمة القاضية” التي تحاكي مواجهة شاملة متعددة الساحات على أساس أنها تأتي في إطار محاولة إسرائيل توجيه رسائل إلى كل من حزب الله وإيران والولايات المتحدة.
فمن خلال تنفيذ هذه المناورة، تحاول إسرائيل تحذير حزب الله من مغبة الإقدام على مهاجمتها؛ حيث حرص القادة الإسرائيليون على تذكير نصر الله بالثمن الذي دفعه لبنان في 2006، بعدما اجتاز حزب الله الحدود وخطف جنديين إسرائيليين.
كما تحاول إسرائيل من خلال هذه المناورة إقناع إيران بأن اللجوء إلى الخيار العسكري لإحباط مشروعها النووي قائم وأنه يجدر بها إعادة تقييم حساباتها. إلى جانب ذلك، فإن المناورة تحمل رسالة تحذير للولايات المتحدة من مغبة التوصل لصفقة مع إيران تضفي شرعية على ما حققته من إنجازات على الصعيد النووي، ولا سيما زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم.
وكما كشف موقع “والا” مؤخرا فإن إسرائيل تشك بأن إدارة بايدن معنية بالتوصل لاتفاق “مؤقت” مع إيران يضمن تجميد بعض مكونات برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة عليها.
وتراهن إسرائيل على مخاوف الولايات المتحدة من تداعيات إقدام إسرائيل على شن ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية. وتعي تل أبيب أن إدارة الرئيس جون بايدن تخشى أن تضطر إلى التورط في مواجهة مع إيران تحت ضغط الأغلبية الساحقة من نواب الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولا سيما في حال ردت إيران وحلفاؤها على قصف منشآتها النووية باستهداف العمق الإسرائيلي على نطاق واسع.
ورغم استعدادات إسرائيل لمواجهة تبعات تفجر مواجهة متعددة الساحات وتنفيذها مناورة “اللكمة القاضية”، فإنه يرجح أن تتجنب الإقدام على خطوات يمكن أن تفضي إلى اندلاع مثل هذه المواجهة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.