في قلب مجرتنا درب التبانة تقع منطقة “الرامي أ*” (*Sagittarius A)، وهي عبارة عن منطقة لامعة ومصدر راديوي قوي جدا، كما أنها جزء من منطقة أكبر تسمى الرامي أ، وتحتوي على ثقب أسود فائق الضخامة، والتي تعد سمة مشتركة حيث يُعتقد أنه توجد ثقوب سوداء شبيهة في مراكز معظم المجرات الحلزونية والإهليجية.
خيوط جديدة غامضة
في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، اكتشف فرهاد يوسف زاده خبير علم الفلك الراديوي وأستاذ الفيزياء وعلم الفلك في كلية وينبرغ للفنون والعلوم (Weinberg College of Arts and Sciences) بجامعة نورث وسترن خيوطا عملاقة أحادية البعد تتدلى عموديا بالقرب من منطقة “الرامي أ*” حيث يوجد الثقب الأسود المركزي الهائل لمجرتنا، والآن اكتشف زاده ومعاونوه مجموعة جديدة من الخيوط، إلا أن هذه الخيوط أقصر بكثير وتقع أفقيا (أو شعاعيا) وتنتشر مثل قضبان على عجلات الدراجات من الثقب الأسود.
وعلى الرغم من أن مجموعتي الخيوط تشتركان في العديد من أوجه التشابه، يفترض يوسف زاده أن لهما أصولا مختلفة، فبينما تجتاح الخيوط الرأسية المجرة بارتفاع يصل إلى 150 سنة ضوئية، تبدو الخيوط الأفقية أشبه بنقاط وشرطات شفرة مورس، وتتخلل جانبا واحدا فقط من منطقة “الرامي أ*”، وقد نشر الفريق نتائج دراستهم لهذه الخيوط في 2 يونيو/حزيران الجاري في دورية “ذا أستروفيزيكال جورنال ليترز” (The Astrophysical Journal Letters).
يقول الباحث يوسف زاده في البيان الصحفي الذي نشرته جامعة نورث وسترن “لقد كانت مفاجأة أن أجد فجأة مجموعة جديدة من التراكيب التي تبدو أنها تشير في اتجاه الثقب الأسود. لقد صدمت حقا عندما رأيتها. كان علينا القيام بالكثير من العمل لإثبات أننا لا نخدع أنفسنا. ووجدنا أن هذه الخيوط ليست عشوائية ولكن يبدو أنها مرتبطة بتدفق ثقبنا الأسود. ومن خلال دراستها، يمكننا معرفة المزيد عن اتجاه القرص التراكمي للثقب الأسود. إنه أمر مبهج عندما يجد المرء شيئا منتظما في وسط حقل فوضوي لنواة مجرتنا”.
تعتمد الدراسة الأخيرة على 4 عقود من أبحاث يوسف زاده، فبعد اكتشافه الخيوط الرأسية لأول مرة في عام 1984 مع مارك موريس ودون تشانس، اكتشف يوسف زاده وإيان هيوود ومعاونوهما في وقت لاحق فقاعتين عملاقتين تنبعث منهما موجات راديوية بالقرب من منطقة “الرامي أ*”، وبعد ذلك -وبحسب سلسلة من المنشورات العلمية في عام 2022- كشف يوسف زاده (بالتعاون مع هيوود وريتشارد أرنت ومارك واردل) عما يقرب من ألف من الخيوط الرأسية التي ظهرت في أزواج ومجموعات، وغالبا ما كانت مكدسة بشكل متساو أو جنبا إلى جنب مثل الأوتار على القيثارة.
تكنولوجيا الفلك الراديوي
ينسب يوسف زاده الفضل في العديد من الاكتشافات الجديدة إلى تكنولوجيا علم الفلك الراديوي المحسّنة، ولا سيما تلسكوب ميركات (MeerKAT) التابع لمرصد علم الفلك الراديوي في جنوب أفريقيا (SARAO)، واستخدم فريق زاده تقنية لإزالة الخلفية وتخفيف التشويش من صور ميركات من أجل فصل الخيوط عن الأجسام المحيطة، وقد علق قائلا “لقد غيرت مشاهدات ميركات قواعد اللعبة. إن تقدم التكنولوجيا ووقت المراقبة المخصص قد أعطانا معلومات جديدة. إنه حقا إنجاز تقني من علماء الفلك الراديوي”.
وبعد دراسة الخيوط الرأسية لعقود من الزمن، صُدم يوسف زاده بالكشف عن نظائرها الأفقية التي يقدر عمرها بنحو 6 ملايين سنة، وبينما تشتمل كلتا المجموعتين على خيوط أحادية البعد يمكن رؤيتها بموجات الراديو ويبدو أنها مرتبطة بالأنشطة في مركز المجرة، فإن أوجه التشابه تنتهي عند هذا الحد، حيث إن هناك اختلافات عديدة:
- الخيوط الرأسية متعامدة مع مستوى المجرة؛ بينما وجدت الخيوط الأفقية موازية لمستوى المجرة ولكنها تتجه شعاعيا نحو مركز المجرة حيث يوجد الثقب الأسود.
- الخيوط العمودية مغناطيسية ونسبوية؛ بينما يبدو أن الخيوط الأفقية ينبعث منها إشعاع حراري.
- الخيوط الرأسية تحتوي على جسيمات تتحرك بسرعات قريبة من سرعة الضوء؛ أما الخيوط الأفقية فيبدو أنها تسرع المادة الحرارية في سحابة جزيئية.
- هناك عدة مئات من الخيوط العمودية وبضع مئات من الخيوط الأفقية. تفوق الخيوط الرأسية بكثير حجم الخيوط الأفقية، حيث يبلغ ارتفاعها ما يصل إلى 150 سنة ضوئية، بينما يبلغ طول الخيوط الأفقية فقط من 5 إلى 10 سنوات ضوئية.
- الخيوط الرأسية تزين أيضا المساحة حول نواة المجرة؛ أما الخيوط الأفقية فتبدو أنها تنتشر في اتجاه واحد فقط، مشيرة نحو الثقب الأسود.
المزيد من البحث
يذكر يوسف زاده أن “أحد أهم الآثار المترتبة على التدفق الشعاعي الذي اكتشفناه هو اتجاه القرص التراكمي والتدفقات من منطقة (الرامي أ*) على طول مستوى المجرة”، والقرص التراكمي هو حزام من الغاز والغبار الكوني يحيط بنجم في طور التكوين (نجم أولي) قزم أبيض أو نجم نيوتروني أو ثقب أسود ويدور حوله بفعل الجاذبية.
والاكتشاف الجديد مليء بالمجهول، وقد بدأ للتو عمل يوسف زاده لكشف أسرارها ومحاولة التفكير في تفسير معقول لآلياتها وأصول تكونها، يقول زاده “نعتقد أنها نشأت مع نوع من التدفق الذي خرج من نشاط حدث قبل بضعة ملايين من السنين. ويبدو أنه نتيجة تفاعل تلك المادة المتدفقة مع الأشياء القريبة منها. لكن عملنا لم يكتمل بعد، بل نحتاج دائما إلى مشاهدات جديدة وأن نتحدى أفكارنا باستمرار وأن ندقق تحليلاتنا”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.