دمشق-
“كتبتُ قصيدةً منذ قليل
ولأنني مقلٌّ وقصيرُ النَّفَس كما تعرفون
فقد كانت قصيدةً قصيرة”
بهذا المقطع الشعري الافتتاحي من قصيدة حملت عنوان الديوان “كمن يريد أن يمحو” الصادر حديثا عن دار راية- فلسطين، يشارك الشاعر السوري المقيم في ألمانيا حسين بن حمزة قارئه المسوّغ وراء الصبغة الأسلوبية (الجمل القصيرة، البساطة، الاختزال) التي تطبع القصائد في ديوانه الجديد.
فالشاعر “مقلّ وقصير النفس” ويحاول أن يعبّد ورقه بحبر لا يتجاوز في التعبير واقع حالته الشعورية في راهن الكتابة، ولقد قيل عنه -كما يخبرنا في القصيدة- إنه “مهووس بالمحو” ولذا فإن قصائده “نحيفة وقصيرة”، وإن هذه الثيمات الأسلوبية تمنح شعر بن حمزة جمالية خاصة جوهرها الصدق وغلبة البساطة على التكلّف في المفردات وأساليب التعبير.
في حين جاءت موضوعات القصائد متنوعة بتنوع التجارب الوجدانية والذاتية للشاعر، فنقرأ قصائد عن الشعر والقصيدة والكتابة وتجلياتها المختلفة، وعن الجار أو “الآخر” الألماني، وعن الحب والاغتراب والمرأة.
عن المحو والاختزال
يَأْلَفُ القارئ لقصائد حسين بن حمزة -الممتدة على مشروع شعري يضم 4 دواوين- أسلوب الشاعر الجامع بين بساطة معجمية، واختزال شكلي، وتعقيد شعري جواني تشكل فيه الذات منطلقا للرؤية والبوح.
وهو ما يمكن الوقوف عليه أيضا في ديوانه الجديد، كما لو أن بن حمزة يحاول التأكيد على قيمة الموضوع الشعري والحالة الوجدانية على حساب الاستفاضة القائمة على تعقيد الشكل وكثرة المفردات والصور الشعرية.
“لقد قيل عني ذات يوم
إنني مهووسٌ بالمحو
وإنني إن واصلتُ الكتابة هكذا
سأنتهي إلى العجز والصمت
وهذا ما حدث فعلا
فقد تابعتُ تنحيف هذه القصيدة
إلى أن صارت مضغوطة في جملة هزيلة وخافتة
جملة كان يمكنني في النهاية أن أتخلّى عنها هي أيضا
وأن تظلّ القصيدة التي أحدّثكم عنها
مجرّد فكرة ميتة في رأسي!”
وعن هذا النزوع إلى الاختزال والمحو، يقول بن حمزة للجزيرة نت “الاقتصاد في الكتابة، التكثيف، الحذف المستمر أثناء الكتابة، محاولة الوصول إلى المعنى أو الاستعارة الشعرية بأقل ما يمكن من الكلمات.. كل ذلك بدأ وتطور كأسلوب ومزاج شخصي للكتابة، ولم يكن يوما إلحاحا، بمعنى أني لا أبذل جهدا زائدا كي تكون القصيدة بهذا الشكل، قصيرة، خافتة، مُعفاة من الاسترسال المجاني والشرح الفائض عن الحاجة”.
ويضيف “أكتب بالطريقة التي تشبهني، وأجد نفسي مرتاحا وخفيفا ومُخلصا، في الوقت نفسه، لفكرتي عن الشعر. فأنا لا أميل إلى الثرثرة الزائدة والكتابة الفضفاضة في الشعر عموما. والثرثرة هنا لا تعني فقط الزيادة في عدد الكلمات أو السطور بل تعني أيضا، وهذا الأهم، أن يشرح الشاعر ما يكتبه وأن يستبسل في إضافة ما لا يفيد المعنى الذي تم الوصول إليه. ولا بد من الإشارة إلى أن شعرية القصيدة أو جودتها لا تتحقق في المحو والاقتصاد. هناك قصائد قصيرة سيئة، وهناك قصائد طويلة أو متوسطة الطول جيدة”.
ولعل ذلك المنطق الأدبي والجمالي الذي ينطلق منه بن حمزة في شعره هو الذي يدفع القارئ للانحياز إلى قصائده بسيطة الشكل والمفردات وعميقة المضمون.
السرد في القصيدة
يهيمن السرد وعناصره الفنية على قصائد بن حمزة التي تبدو للقارئ كمشاهد من قصص متعددة يحكمها زمان ومكان محددان، وتتصدرها شخوص لا نقف إلا على ظلال وجودها وشعريته لنبقى بانتظار حضورها مجددا؛ فيتثنى لنا التقاط بعض تفاصيلها على طريق اكتمالها في المخيّلة.
“كانتْ من مدينة بحرية
ولذلك لم يكن غريبا
أن يُسمع وهي نائمة
هديرُ موجات
تلعقُ صخور الشاطئ
أو صيحاتُ نوارس
تنقضُّ من الأعالي
على أسماك تعومُ في أحلامها!”
ونرصد في هذه القصيدة التي حملت عنوان “امرأة من الساحل” مثالا عن الإقلال في ذكر التفاصيل عن الشخوص في أشعار بن حمزة، فلم نعرف عن هذه المرأة الساحلية سوى أن لنومها “صوت هدير الموجات وصيحات نوارس” وهي استعارات قليلة تنغلق عليها القصيدة، داعية القارئ للمشاركة في صياغة هذه الشخصية وفق ما تمليه عليه المخيلة.
وفي هذا الإقلال والاختزال ينطوي الصمت بدلالاته وشعريته، ويصبح قطارا من البوح للذين يتأملون في ما سكتت عنه القصيدة:
“لا أكتبُ قصيدةً قصيرة
بل أحاولُ أن أكتبَ
ما يبقى من قصيدةٍ طويلة”
وعن غلبة الصمت في أشعاره يقول بن حمزة: “الصمت أو الميل إلى الوحدة والعزلة صفة أخرى من صفات وجودي الشخصي في الحياة عموما. وأعتقد أن ثمة علاقة ما بمزاج ذاتي يعكس اغترابا أو غربة ما عن الآخرين أو عن الحشود. الصمت يدفع المرء أكثر إلى الهامش وإلى الحواف البعيدة”.
ويضيف “أظن أن جزءا من هذا كان موجودا مسبقا قبل الكتابة. الصمت والإقلال والخفوت والانزواء.. كلها صفات ذاتية تسرّبت مع الوقت إلى الكتابة أيضا”.
الاغتراب والجار الألماني
منذ هجرة حسين بن حمزة إلى ألمانيا قبل 6 أعوام، لم تفارق أشعاره مفردات الاغتراب واللجوء السوري؛ فدأب على التقاط مشاهد من يوميات اغترابه في ألمانيا وتضمينها في قصائده لتغدو سبيلا إلى البحث عن معنى جديد في تجربة ومجتمع جديدين.
فتظهر شخصية “الجار الألماني” كملهم للشاعر في ديوان “كمن يريد أن يمحو”، فيدوّن في قصيدة “زيارة ذاتية”:
“لا أحد في الداخل
جاري الألماني يعيش وحيدا
ولكنه كلّ يومين أو ثلاثة
يخرجُ من المنزل
يجولُ حوله
أراقبه من النافذة
وهو يُعاين الشارع ومدخل البيت وسور الحديقة
يتأكدُ من العنوان كأنه شخصٌ تلقّى دعوة
يتردّد قليلا
قبل أن يجتاز الحديقة باتجاه المدخل
يفتح الباب
ليزور نفسه!”
أما في قصيدة حملت عنوان “قصيدة نظيفة” يجد الشاعر في اهتمام جاره الألماني بحديقة منزله استعارة لاهتمامه هو بنظافة قصيدته، فيدوّن:
“أحيانا تكون ورقة طيّرها الهواء
أو حصاةً صغيرة رَكَلَها عابرٌ ما
أنظرُ إليه
وهو يلتقطُ الحصاة أو الورقة
بطريقة من يرفع حشرةً ميتة
ويرميها بعيدا
..
آه أيها الجارُ الغريب الأطوار
أنا أيضا أفعلُ هذا
كلما وجدتُ كلمةً زائدة في قصائدي!”
ويشير بن حمزة -في حديثه للجزيرة نت- إلى أثر الاغتراب على أشعاره بالقول “إن فقدان الماضي وأمكنة الماضي تسهم بالتأكيد في تعزيز العزلة وترسيخ الصمت. ولكن من جهة أخرى ساهم هذا الانتقال (إلى ألمانيا) في تسرب موضوعات جديدة إلى كتابتي. سابقا كان من النادر أن تستجيب مخيلتي لأحداث مباشرة وقضايا كبرى وساخنة. الكثير من قصائد ديواني الجديد “كمن يريد أن يمحو” كُتبت في ألمانيا، وحضرت فيها مفردات مثل اللجوء، والسوريين، والجار الألماني وغيرها. ولكني حاولت طبعا أن تحضر بطريقة تناسب مزاجي في الكتابة”.
ويرى الشاعر في انتقاله إلى ألمانيا اقتلاعا وإن كانت هجرته إلى تلك البلاد خيارا شخصيا، ولذا “كان من الطبيعي أن تظهر مشهديات وتفاصيل من هذه الإقامة. أن يظهر الجار الألماني والمكان الألماني وإيحاءات من فكرة المنفى والمكان الغريب”.
غير أن ذلك الانتقال كان سببا أيضا في إلهام الشاعر قصائد جديدة؛ فيقول عن ذلك “الإقامة الجديدة سمحت لي باستعادة ثقتي بالكلمات. عدتُ للكتابة بزخم أكثر مما اعتدتُ عليه. المكان الجديد لعب دورا حاسما في ذلك”.
والجدير بالذكر أن ديوان “كمن يريد أن يمحو” هو الرابع في رصيد بن حمزة بعد مجموعاته الشعرية “رجل نائم في ثياب الأحد” (1997)، و”قصائد دون سن الرشد” (2018)، و”أتحدث عن الزرقة لا عن البحر” (2020).
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.