لابوان باجو – في بلدة “لابوان باجو”، التي لا يتجاوز عدد سكانها 7 آلاف نسمة شرقي إندونيسيا، تُعقد قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان” (ASEAN) هذه الأيام، فيما يبدو مسعى لإشهارها بوصفها وجهة سياحية ونافذة على الجزر المحيطة، على غرار جزيرة بالي الشهيرة.
لكن وراء الأجواء المشمسة، والجهد الإندونيسي التسويقي بحضور آلاف المشاركين في القمة والمنظمين لها بمن فيهم 12 ألفا و600 عنصر أمن و6 سفن عسكرية لتأمين فعالياتها، ورغم هدوء سواحل الجزر المحيطة، فإن قادة دول آسيان يواجهون قضايا إقليمية ودولية بالغة التعقيد.
ومن أبرز هذه القضايا وأقربها الصراع الدموي في ميانمار منذ الانقلاب على برلمانها المنتخب في فبراير/شباط 2021، حيث عبّر قادة آسيان عن قلقهم العميق حياله، ودعوا -في بيان- إلى وقف فوري لكل أشكال العنف واستخدام القوة هناك لتهيئة الظروف لإيصال المساعدات الإنسانية، وإطلاق حوار وطني شامل، مؤيّدين تواصل إندونيسيا مع كل الأطراف الميانمارية بما فيها الحكومة العسكرية والمعارضة والمجموعات المسلحة.
مرساة سلام أم نقطة توتر جديدة؟
وأبعد من ميانمار، تواجه آسيان تدافعا دوليا تزداد حدته في منطقة جنوب شرق آسيا والتي باتت نقطة ساخنة تلتقي فيها تيارات حرب باردة جديدة بين المحور الصيني والمحور الأميركي-الغربي؛ فليست تايوان ببعيدة عن الأطراف الشمالية لدول الرابطة، وكذلك شبه الجزيرة الكورية.
وعبّر الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، في كلمته بافتتاح القمة، عن ثقته في أن وحدة وتماسك رابطة آسيان سيجعلها فاعلا مركزيا في صناعة السلام والنمو الاقتصادي خاصة وأن اقتصادات الدول الأعضاء تنمو بنسب أعلى من المعدلات العالمية، وهي المنطقة الاقتصادية الثالثة في العالم -بعد الصين والهند- بتعداد سكاني يقارب 664 مليون نسمة، تليها الولايات المتحدة ثم باكستان.
ويقول تيكو رضا شاه، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة “باجاجاران” بمدينة باندونغ الإندونيسية، إن مجتمعات دول آسيان تتطلع لأن تصبح رابطتها أكثر تأثيرا في التعامل مع التحديات الكبرى، وفي مقدمتها الحرب الباردة الجديدة بعد نظيرتها الأولى التي امتدت بين عامي 1947 و1991.
ووفق رضا شاه، تتطلع دول آسيان لتطبيق جملة تصورات لمنطقة المحيطين الهندي والهادي، وهي تصورات تتلاقى مع رؤى آسيوية وغربية أخرى، وتحمل الاصطلاح نفسه في مواجهة التمدد الصيني.
ومن أبرز تطلعات الرابطة، سعي آسيان لإبقاء منطقتها خالية من السلاح النووي بما في ذلك إبحار الغواصات النووية الصينية والغربية، والحفاظ عليها آمنة ومستقرة ومفتوحة للتواصل الاقتصادي مع جميع الدول، كما أكدت على ذلك وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مرسودي.
هل تُعقد مفاوضات بحر جنوب الصين؟
وفي الشأن الإقليمي الأكثر سخونة، من المرتقب أن تستضيف إندونيسيا مفاوضات دول رابطة آسيان مع الصين بشأن قواعد السلوك في بحر جنوب الصين هذا العام، وتفعيل “المنتدى الملاحي” لحل النزاعات بين الصين وعدد من دول الرابطة.
وكانت الصين ودول آسيان العشر -من دون تيمور الشرقية- قد وقعت مدونة تمهيدية لقواعد السلوك في بحر جنوب الصين في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، على أن يتم التوصل إلى اتفاقية مُلزمة تضم قواعد سلوك في البحر الذي تشترك فيه معظم دول آسيان مع بكين.
لكن ذلك لم ينجز رغم تكرار جلسات المحادثات؛ فبروناي دار السلام وماليزيا وفيتنام والفلبين في خلاف مع الصين على الحدود البحرية التي تتوسع فيها بكين ملاحيا وعسكريا. أما إندونيسيا فتعتبر الجزء الجنوبي من بحر جنوب الصين مياها إندونيسية أسمتها عام 2017 باسم “بحر جزر ناتونا الشمالي”، وهي الفاصل بين بحر جنوب الصين ومضيق ملاقا في الجنوب الغربي وبحر جاوا في الجنوب الشرقي.
تفاوت المسافات
ولا تبدو دول آسيان على المسافة نفسها من أطراف التدافع الدولي في منطقتهم؛ فالرئيس فيرديناند ماركوس قادم للتو من زيارة رسمية هي الأولى لرئيس فلبيني للبيت الأبيض منذ نحو 10 سنين، وبعث من هناك برسائل عديدة إلى بكين، مشيرا إلى أن “القواعد التسع” التي يسمح للقوات الأميركية باستخدامها في بلاده هي ضمن “خطوات دفاعية” ستكون مفيدة إن هوجمت تايوان، وهو الأقرب إليها من بين دول آسيان.
ورغم تعهد الولايات المتحدة بالدفاع عن حليفتها منذ الاستقلال عنها قبل 72 عاما، فإن ماركوس أكد أن تلك القواعد ليست “لأعمال هجومية”، وأن واشنطن لم تطلب وضع منظومات تسلّح معينة في الفلبين، كما لم تطلب منها المشاركة بقواتها في أي مواجهة تحدث بمضيق تايوان.
وفي الوقت نفسه، تسعى الفلبين إلى ترتيب دوريات مشتركة في بحر جنوب الصين مع البحرية الأميركية واليابانية والكورية الجنوبية والأسترالية، وتترقب -في المقابل- محادثات مع بكين بشأن حقوق صياديها الذين تضايقهم السفن الصينية، إلى جانب أي شراكات ممكنة في ثروات بحر جنوب الصين.
في المقابل، فإن دولا أخرى، مثل كمبوديا، تبدو أقرب في تحالفها السياسي والاقتصادي مع الصين، وهي الدولة الأكثر استقبالا لمشاريع “مبادرة الحزام والطريق” الصينية في العالم. والحال مشابه بالنسبة لميانمار القريبة من الصين، والعضو الأقرب عسكريا إلى موسكو أيضا من بين دول آسيان.
وبين المسارين، تسعى دول أخرى مثل إندونيسيا وماليزيا إلى البقاء على علاقة متوازنة مع القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية، يضاف إلى ذلك الهند.
وفي هذا السياق، تتطلع سنغافورة إلى تعزيز موقعها بوصفها مركز تجارة وملاحة وتمويل عالمي، وانخرطت مع البحرية الصينية في تدريبات مشتركة بنهاية أبريل/نيسان الماضي ومطلع مايو/أيار الجاري، تزامنا مع تدريبات فلبينية أميركية في بحر غرب الفلبين. وبعدها بأيام استضافت سنغافورة تدريبات هندية مع دول آسيان (من الثاني إلى الثامن من الشهر الجاري).
أحلاف وترتيبات إقليمية
تبدو آسيان في هذا السياق محاطة بتحالفات آخذة بالتشكل، وبتغيرات جيوسياسية متسارعة تحمّلها دورا أثقل في الحفاظ على استقرار المنطقة وتفادي اشتعال صراع فيها. ولو حصل فعلا، فستبحر القطع العسكرية في مياهها وتعبر مضايق جزرها.
وفي هذا الشأن، لفت أنظار الساسة في جنوب شرق آسيا قرار حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) فتح مكتب اتصال له في طوكيو العام المقبل هو الأول في آسيا، تعزيزا لعلاقاته مع حلفائه الإقليميين في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وفي مقدمتهم اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزلندا، ولمواجهة تحديات جيوسياسية مصدرها الصين وروسيا، كما نقلت وسائل إعلام يابانية مؤخرا.
وضمن المسار نفسه، وليس بعيدا عن لابوان باجو حيث تعقد قمة آسيان، وفي سابقة هي الأولى من نوعها، يزور الرئيس الأميركي جو بايدين يوم 22 مايو/أيار الجاري “بابوا غينيا الجديدة” الواقعة إلى الشرق من إندونيسيا والمطلة على وسط المحيط الهادي.
وستكون هذه أول زيارة لرئيس أميركي إلى هذا البلد، وتبدو ضمن مسعى الولايات المتحدة لاستعادة الحضور في منطقة آسيا والمحيط الهادي بعد سنوات من تراجعه خلال عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب. كما تأتي بعد 5 سنوات من زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لها، وتوقيع بلاده اتفاقية مع جزر السلمون شرقي بابوا غينيا الجديدة تسمح للقوات الصينية بالنزول في جزرها. كما كسبت شركة صينية عقدا لتطوير مطار عاصمتها هونايرا.
وإلى جانب السعي لتوقيع اتفاقية تعاون دفاعي بين الولايات المتحدة وبابوا غينيا الجديدة، تقوم واشنطن حاليا -وجنبا إلى جنب مع أستراليا- بتشييد قاعدة لومبروم البحرية المشتركة في جزيرة مانوس الواقعة في أقصى الشمال الشرقي لبابوا غينيا الجديدة، وكانت قد استخدمتها الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية واستفادت منها أستراليا في العقود التي تلتها.
ومن بين البرامج التي سيشارك فيها الرئيس بايدن خلال زيارته بابوا غينيا الجديدة هذا الشهر، “منتدى تعاون الهند وجزر المحيط الهادي” بمشاركة رؤساء 18 دولة من جزر المحيط الهادي. وقبل وصوله إلى بابوا غينيا الجديدة سينضم إلى قمة الدول السبع الكبار في اليابان (20-21 مايو/أيار الجاري).
شركاء إقليميون
وينهي بايدن جولته باجتماع القمة الرباعية في سيدني جنوب المحيط الهادي يوم 24 مايو/أيار الجاري، وهو آخر الأحلاف الدبلوماسية تشكلا في المنطقة، ويضم الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، ووصفه بيان لمكتب رئيس الوزراء الأسترالي بأنه “شراكة دبلوماسية لأربع دول تتعهد بتعزيز الاستقرار والرفاهية في منطقة المحيطين الهندي والهادي”، وتعد آسيان ومنتدى جزر المحيط الهادي أهم الشركاء الإقليميين لهذه الرباعية.
وتتقاطع هذه الرباعية مع حلف “أوكوس” الثلاثي الذي أعلن عنه يوم 15 سبتمبر/أيلول 2021، ويضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، ويركز على التكامل في الصناعات والتقنيات الدفاعية وسلاسل الإنتاج فيها، ويصل إلى إعانة أستراليا على امتلاك غواصات نووية وتطوير صواريخ بعيدة المدى ومنظومات دفاعية وعربات موجهة تحت الماء.
وتصبّ كل الشراكات والأحلاف باتجاه حضور أرسخ لهذه الدول في منطقة المحيطين الهندي والهادي، مقابل توسّع الصين ومن خلال مياه دول آسيان، وتتقاطع مع الحلف الأمني المعلوماتي الخماسي الآخر “العيون الخمس” الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزلندا وبريطانيا.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.