لعبة شد الحبال بين الولايات المتحدة والصين تسير على قدم وساق في شتى المجالات دون أن تخفف من حدتها برودة اللغة الدبلوماسية التي يلجأ إليها الطرفان من حين إلى آخر تجنبا لحدوث تصعيد مفاجئ لا تفضل الصين الدخول فيه ولا تريد الولايات المتحدة اللجوء إليه قبل تحقيق أهدافها من الحرب الروسية الأوكرانية.
وقد سعت الصين بإصدارها قانون العلاقات الخارجية الجديد إلى الالتفاف على الإجراءات التي تقوم بها واشنطن ضدها لإعاقة تحركاتها الإقليمية والدولية والحد من النجاحات التي تحققها بين الحين والآخر على حساب مكانة الولايات المتحدة وزعامتها الدولية.
وبعد أن استعرضنا في المقال السابق أبرز ما جاء في هذا القانون نقف في هذا المقال عند دوافع الصين من إصداره والدلالات المترتبة عليه.
سعت الصين بإصدارها قانون العلاقات الخارجية الجديد إلى الالتفاف على الإجراءات التي تقوم بها واشنطن ضدها لإعاقة تحركاتها الإقليمية والدولية والحد من النجاحات التي تحققها بين الحين والآخر على حساب مكانة الولايات المتحدة وزعامتها الدولية
لماذا أقدمت الصين على إصدار القانون؟
صدر القانون في سياق دولي مضطرب سياسيا واقتصاديا وعسكريا وضع الصين في دائرة الاستهداف من جهة الولايات المتحدة على أقل تقدير، وقامت بكين بإصداره مدفوعة بالعديد من الأسباب الملحة، وفي مقدمتها:
- تدرك الصين تماما أبعاد السياسة التي تنتهجها واشنطن ضدها منذ عدة سنوات بعد أن حسمت موقفها تجاهها باعتبارها المهدد الإستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة في شتى المجالات، وقد فصّلنا القول في هذا الأمر في عدة مقالات سابقة.هذا الموقف الذي لا تنفك الولايات المتحدة تعبر عنه في كل مناسبة أوقعها في تناقضات سياسية ودبلوماسية عديدة، بين ما ينبغي عليها أن تقوم به وبين ما تقوم به فعليا، فهي من جهة تؤكد على التزامها بمبدأ الصين الواحدة التي تشمل جزيرة تايوان، وفي الوقت نفسه تصر على الوقوف إلى جانب تايوان والدفاع عنها من أي عمل عسكري تقوم به بكين لبسط هيمنتها على تايوان.
- يأتي هذا القانون ضمن الإجراءات القانونية والبروتوكولية الدولية التي تقوم بها الصين لمواجهة المراوغة السياسية الأميركية ضدها، حيث إنه يعطي بكين الحق في اتخاذ إجراءات عقابية مضادة تقوم بها أي دولة في العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي بعثت وزير خارجيتها أنتوني بلينكن قبل 10 أيام من إصدار القانون إلى الصين، حيث التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ وأكد له ما سبق أن إدارة الرئيس بايدن أكدت عليه مرارا أن الولايات المتحدة تعمل على إدارة المنافسة الحادة بينها وبين الصين بشكل مسؤول لئلا تتحول إلى نزاع، في تلميح مباشر إلى احتمال الصدام بين الدولتين، وهو احتمال لم تقتصر الولايات المتحدة حياله على مجرد التحرك الدبلوماسي، بل تقوم باستعدادات داخلية وخارجية واسعة على المستويين السياسي والعسكري، ومن هنا جاءت تأكيدات الرئيس الصيني في لقائه الوزير الأميركي أنه يجب على واشنطن ألا تضر بمصالح الصين الوطنية وحقوقها المشروعة.
- تبعث الصين في هذا القانون تحذيرا مباشرا إلى الولايات المتحدة بأنها سترد بالمثل على أي إجراءات أميركية تهدد مصالحها الوطنية، فقد ضاعفت واشنطن مؤخرا الضوابط الأميركية على تصدير السلع عالية التقنية إلى الصين، مع تقليل الاعتماد على الموردين الصينيين.كما قامت الولايات المتحدة مؤخرا بإدراج العديد من الشركات الصينية في القائمة السوداء على خلفية اتهامها بالضلوع في برامج المراقبة والحرب الروسية في أوكرانيا، مما دفع الصين في المقابل إلى فرض عقوبات على شركتي دفاع أميركيتين بتهمة قيامهما ببيع أسلحة إلى تايوان.
- تسعى الصين بهذا القانون إلى وضع أساس قانوني ودبلوماسي قوي ينطلق من النظام السياسي الصيني وهياكله وقيمه، لحماية مصالحها الوطنية ضد العقوبات الخارجية والتدخل الخارجي، الأمر الذي يزيد قلق الولايات المتحدة والدول الغربية المؤيدة لها بشأن سياساتها ضد الصين.
- باعتبارها جزءا أصيلا من المجتمع الدولي وعضوة دائمة في مجلس الأمن وصاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة تؤكد الصين بهذا القانون على محددات سياستها الخارجية والأسس التي تنطلق منها، وعلى رأسها: حفظ السيادة الوطنية والأمن والمصالح التنموية، وإقامة قوة اشتراكية حديثة، وتحقيق التجديد العظيم للشعب الصيني، وتعزيز السلام والتنمية في العالم، وبناء مستقبل مشترك للبشرية.
تستخدم الصين اللغة والمفردات والمصطلحات نفسها التي ترددها الولايات المتحدة والدول الغربية بشأن التنمية المستدامة والحرية وحقوق الإنسان، مع التشديد على الالتزام باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية أو فرض أي متطلبات سياسية
ماذا يعني ذلك؟
تشير الدلالات المترتبة على هذا القانون إلى أن الصين مقبلة على مرحلة جديدة هي امتداد لمراحل البناء التي قامت بها على مدى ربع القرن الماضي، وأنها لن تتراجع عن أهدافها الإستراتيجية التي تأسست عليها هذه المراحل، مما يزيد احتمالات المواجهة متعددة الأصعدة والمستويات بين الولايات المتحدة وحلفائها في المدى المتوسط، ومن أبرز هذه الدلالات:
- الصين مصرة على نظامها السياسي الاشتراكي ذي الخصائص الصينية القائم على الفكر الماركسي اللينيني الماوي تحت القيادة المركزية الموحدة للحزب الشيوعي الصيني، وهي تعتقد أن هذا النظام لا يتعارض مع النظام الديمقراطي، وأن على الغرب احترام النظام السياسي الصيني والتعامل معه باعتباره اختيار الشعب الصيني وشأنا داخليا لا يحق لأي دولة التدخل فيه.
- الصين بقيادة الرئيس شي جين بينغ مصرة على تحقيق التجديد العظيم للشعب الصيني، وعلى القيام بدورها في إعادة بناء النظام الدولي وتجديد القيم التي يقوم عليها، مما يساهم في تعزيز السلام والتنمية في العالم، وبناء مستقبل مشترك للبشرية يقوم على عدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة، والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي، وهذا يعني أننا سنشهد في المدى المنظور حراكا سياسيا صينيا متناميا في هذا الاتجاه سيعزز المنافسة ويدعم مبررات الصدام بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى.
- لا تسعى الصين إلى تقويض النظام العالمي القائم وتصر على المشاركة في صياغة القواعد الدولية وإدخال إصلاحات تضع حدا لتفرد الولايات المتحدة بالزعامة الدولية، وتحافظ على السلام والأمن العالميين، وتعزيز التنمية العالمية المشتركة، وتعزيز بناء شكل جديد من العلاقات الدولية، وتدعو إلى الحل السلمي للنزاعات الدولية، وتعارض استخدام القوة العسكرية أو التهديد بها في العلاقات الدولية، وهذا المسعى الصيني يبدو بعيد المنال ولا يمكن أن يتحقق دون صدامات تؤدي إلى تفكيك النظام العالمي القائم وبناء نظام عالمي جديد.
- تلتزم الصين بالوفاء بمسؤولياتها باعتبارها عضوة دائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتحافظ على السلم والأمن الدوليين وعلى سلطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وموقعه، كما تدعم وتشارك في عمليات حفظ السلام التي يقررها مجلس الأمن، وتحافظ على الضوابط الدولية الخاصة بالتسلح وأنظمة نزع السلاح وعدم الانتشار، وتعارض سباقات التسلح وجميع الأنشطة المتعلقة بانتشار أسلحة الدمار الشامل، وتفي بالتزاماتها الدولية ذات الصلة.
- ستأخذ الصين مكانتها على الساحة الدولية كدولة عظمى تتعامل بندية كاملة مع غيرها من الدول المهيمنة التي تضر بمصالحها الوطنية، وستلاحق أي منظمة أو أفراد ينتهكون القانون ويضرون بالمصلحة الوطنية الصينية، وستحمّلهم المسؤولية الكاملة، بما في ذلك الولايات المتحدة، مما سيدفع العلاقات الصينية الأميركية والغربية إلى مزيد من التوتر في المدى المنظور.
- يعطي القانون رئيس الجمهورية السلطة العليا في العلاقات الخارجية الصينية ومن بعده الهيئة القيادية المركزية كجهة مسؤولة عن اتخاذ القرارات الرئيسية ووضع الخطط وتنسيقها على أعلى المستويات، كما يعطي المجلس الشعبي الوطني ولجنته الدائمة سلطة التصديق على المعاهدات والاتفاقيات المهمة المبرمة مع الدول الأجنبية وإلغائها، في دلالة واضحة على مدى هيمنة الحزب الشيوعي الصيني الكاملة على العلاقات الخارجية، بحيث ينحصر عمل وزارة الخارجية في مجرد تنسيق الشؤون الدبلوماسية بين الدولة وقادتها والعالم الخارجي، ويعني ذلك أن العلاقات الخارجية الصينية في المرحلة القادمة ستكون أكثر حدة وندية عما كانت عليه سابقا.
- تؤكد الصين في هذا القانون التزامها بمفهوم التنمية العالمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، والتنمية البشرية المستدامة الشاملة وتعزيز التنمية الكاملة لحقوق الإنسان، والدعوة إلى تجاوز الاختلافات القومية والعرقية والثقافية من أجل المضي قدما في القيم الإنسانية المشتركة المتمثلة في السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية واحترام تنوع الحضارات.
- نلاحظ هنا أن الصين تستخدم اللغة والمفردات والمصطلحات نفسها التي ترددها الولايات المتحدة والدول الغربية بعيدا عن الصورة النمطية للأنظمة الشيوعية المركزية الاستبدادية متمثلة في نموذج الاتحاد السوفياتي السابق، بل وتصر على الالتزام باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية أو فرض أي متطلبات سياسية، وبذلك تقطع الصين الطريق على الولايات المتحدة والدول الغربية كي لا تستمر في تسويق هذه المفردات والمفاهيم كشعارات لتسويق مخططاتها وفرض هيمنتها على الدول المستضعفة، مما سيفتح الطريق أمام بكين لكسب مساحات جديدة على الساحة الدولية وتعزيز مكانتها وشراكاتها مع الدول التي ضاقت ذرعا بالسياسات الغربية المجحفة والظالمة، وهو ما قد يدفعها إلى تغيير هذه السياسات في المدى المنظور.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.