الحرب الإنجليزية العراقية عام 1941 حدث أطلقت عليه تسميات متعددة، فبعض المؤرخين سموه “الحرب العراقية-البريطانية 1941″، وبعضهم سمّاها “ثورة مايس”، بينما يطلق عليها آخرون “ثورة رشيد عالي الكيلاني”.
استمرت مقدمات هذه الأحداث سياسيا من فبراير/شباط حتى الثاني من مايو/أيار 1941، ثم تحولت إلى اشتباكات عسكرية لم تنته إلا بنهاية شهر مايو/أيار في ذلك العام.
ومما يجمع عليه المؤرخون أن هذه الثورة تعد من أبرز مراحل التاريخ العراقي المعاصر، لما تركته من آثار في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العراق. ولعل من أبرز هذه الآثار وقوع بلاد الرافدين تحت الاحتلال البريطاني مرة ثانية، الذي استمر حتى سقوط النظام الملكي الهاشمي في ثورة 14 يوليو/تموز سنة 1958، وذلك وفق ما يراه المؤرخ وأستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الموصل الدكتور إبراهيم العلاف.
أسباب ثورة مايس 1941
ووفق العلاف، فإنه لمعرفة أسرار وخفايا ثورة مايس والحرب العراقية البريطانية عام 1941 فلا بد من العودة إلى الوراء، وتحديدا إلى ثورة عام 1920 الكبرى التي تعد من مراحل الثورة الوطنية على المستعمر الإنجليزي الذي احتل العراق منذ بدء الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 و1918.
ثم ما لبث الإنجليز أن فرضوا على البلاد انتدابهم الذي انتهى بدخول العراق عصبة الأمم عام 1932 بصفته دولة مستقلة شكلا، لكنها ظلت مكبلة بمعاهدة 1930 التي أتاحت للبريطانيين عودة قواتهم المسلحة كلما تعرضت مصالحهم للخطر.
وقد أفضى ذلك فعليا إلى كثير من القسوة تجاه العراقيين، إلى أن أدرك البريطانيون كره العراقيين لهم، الذي أدى إلى محاولتهم تسليم الحكم في البلاد لحكم وطني “أهلي”، وذلك يعني وضع رجال في سدة الحكم من أهل البلاد، مع بقاء التحكم البريطاني بمقدّرات البلاد من وراء ستار، وهو ما قاد خلال سلسلة من الأحداث امتدت سنوات إلى “ثورة مايس” والحرب البريطانية العراقية.
ويشير العلاف إلى أن ثورة مايس 1941 كانت نتيجة حتمية للأوضاع “الفاسدة” التي عاشها العراق منذ وفاة الملك فيصل الأول سنة 1933، وظهور مراكز قوى سياسية متعددة أربكت البلاد على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعدد الحكومات وتواليها، والاختلاف الكبير في البرلمان.
موقف العراق من الحرب العالمية الثانية
وعن الأسباب الأخرى لقيام ثورة مايس 1941 في العراق، يرى الباحث في مجال التاريخ ياسر الحيالي أن من جملتها سلسلة الأحداث الدستورية التي تصاعدت بسبب تضارب مدارس الحكم الملكي وتياراته بين التيار الوطني الثوري والتيار الليبرالي الموالي للبريطانيين الذي كان يقوده السياسي نوري السعيد.
وبعد إعلان الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله وتشجيع رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد وموافقة البريطانيينن، تسلم رشيد عالي الكيلاني رئاسة الوزراء، إلا أن البريطانيين وبعد أشهر على توليه الحكم نظروا إلى هذه الحكومة على أنها مخادعة ولن تلبي طموحاتهم، لا سيما بعد انفتاح العراق على دول المحور في الحرب العالمية الثانية تجاه كل من ألمانيا وإيطاليا، وفق الحيالي.
ولأن الكيلاني لم يعتمد على هذا الترشيح وارتكز على قاعدة شعبية وبرلمانية وعسكرية متمثلة بالجيش العراقي الذي كان يدعمه بقوة، كان موقفه معارضا للسياسة البريطانية كما ذهب بعيدا في انتقاد بريطانيا ورفض قطع العلاقة مع إيطاليا التي أعلنت الحرب على بريطانيا وفرنسا، فأغضب ذلك البريطانيين كثيرا، وفق الحيالي.
بداية ملامح الثورة
بدأت ملامح التحرك البريطاني ضد حكومة رشيد عالي الكيلاني قبل أشهر من الصدام العسكري الذي وقع في مايو/أيار 1941، عندما أوعزت لندن إلى حلفائها في حكومة الكيلاني بالانسحاب من الحكومة، وهو ما حدث بالفعل تمهيدا لتقديم حكومة الكيلاني استقالتها.
غير أنه بمجرد طلب الوصي عبد الإله من الكيلاني الاستقالة، بدأت ملامح الثورة إذ تحرك الجيش العراقي واندلعت مظاهرات تطالب بتنفيذ رأي الكيلاني بحلّ المجلس النيابي، وإجراء انتخابات جديدة، وهو ما أكده المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في سلسلة كتبه “تاريخ العراق السياسي الحديث”.
وبعد إقالة حكومة الكيلاني، شُكّلت وزارة طه الهاشمي، إلا أن الكيلاني اجتمع في معسكر الرشيد (جنوب بغداد) برئيس أركان الجيش اللواء أمين زكي وبعض الضباط، حيث أعلنوا الاستنفار بالمعسكر وخططوا للانقلاب إذا رفضت حكومةُ طه الهاشمي -التي تحظى بدعم الوصي والبريطانيين- الاستقالة.
ووفق الحيالي، فإن الوصي بعد أن علم بالتحرك العسكري هرب من العاصمة ودعا طه الهاشمي أعضاء وزارته للاجتماع. وتزامنا مع ذلك، كان الجيش العراقي قد دخل العاصمة بغداد وسيطر على المداخل الرئيسة وحاصر قصر الوصي، وما لبثت محاولات الاتفاق بين الكيلاني والهاشمي أن فشلت بعدما أقيل الهاشمي من منصبه رئيسا للوزراء.
بداية التحرك العسكري
وبعد العديد من الأحداث، عمد الكيلاني إلى استدعاء المستشار الإنجليزي بوزارة الداخلية، وأعلمه أن حكومة طه الهاشمي استقالت مع غياب الوصي على عرش البلاد، حيث أوكل الجيش للكيلاني تسيير الأوضاع السياسية، فتم عزل الوصي وتعيين بديل من العائلة الهاشمية هو الشريف شرف الذي قَبِلَ استقالة حكومة طه الهاشمي، وكان ذلك في أبريل/نيسان 1941، وهو ما يذكره المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه “أحداث عاصرتها”.
ويذكر المؤرخ الدكتور إبراهيم العلاف أن رشيد عالي الكيلاني أعلن في الثالث من أبريل/نيسان 1941 برنامج حكومته الذي ركز على عدم توريط العراق في أخطار الحرب، وهو ما لم يرق لبريطانيا التي عدّت هذا الفعل غير مشروع، فقررت التحرك العسكري بإنزال قوات كبيرة في البصرة في 19 أبريل/نيسان 1941، مستندة في ذلك إلى مواد في معاهدة 1930.
ويتابع أن القوات البريطانية عسكرت في البصرة، ثم ما لبث الصدام العسكري أن بدأ بينها وبين القوات العراقية في معسكر الحبانية (غرب بغداد)، وذلك عندما أطلقت القوات البريطانية النيران على نظيرتها العراقية صباح الثاني من مايو/أيار 1941، حيث استمر الصدام شهرا كاملا، تطورت خلاله الأحداث العسكرية، فلجأت بريطانيا إلى إشراك قاذفات القنابل لتدمير الطائرات العراقية المقاتلة في القواعد العسكرية.
ولم تقف الأوضاع عند ذلك، فقد استهدفت القوات البريطانية بعض المدن ومنها الموصل (شمال بغداد) التي قصفتها الطائرات البريطانية بالقنابل، ثم ما لبثت أن احتلت بغداد ثانية في 19 مايو/أيار 1941 بعد أن كانت دخلتها أول مرة في 11 مارس/آذار 1917 خلال الحرب العالمية الأولى، وفق ما يشير إليه العلاف الذي يرى أن هذا الاحتلال اعتبر تاريخيا الاحتلال البريطاني الثاني للعراق.
ورغم استمرار الاشتباكات فإن الغلبة كانت للقوات البريطانية على نحو أدى بعد أيام إلى إعلان هدنة بين الطرفين في 30 مايو/أيار 1941، كان من أهم بنودها أن تحتفظ بريطانيا بقواتها كافة في العراق، وأن تكون حدود العراق البرية والبحرية والجوية تحت سيطرة بريطانيا، مع تسليم الأسرى العراقيين للحكومة العراقية التي ستشكل محاكم لغرض محاكمتهم.
ويختتم العلاف بالقول إن من جملة ما فعلته بريطانيا بعد احتلالها بغداد ثانية إعادة النظر في المناهج التعليمية العراقية مع الاستعانة بخبراء ومستشارين تربويين من بريطانيا، كما اهتمت بالإعلام المضاد لكل ما هو قومي، وصنفت العديد من المسؤولين غير مرغوب بهم، مع الضغط على الحكومة العراقية لإسقاط الجنسية عن العديد من المدرسين المصريين والسوريين واللبنانيين وطردهم إلى بلادهم.
كذلك شرعت بريطانيا في تأسيس المراكز الثقافية التي تروّج لسياساتها في بغداد والموصل والبصرة والمدن الأخرى، بيد أن ذلك لم يحقق النتائج المرجوة إذ تنامى السخط على البريطانيين وأعوانهم واتسعت المعارضة مرة أخرى.
وبعدئذ شُكّلت جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، وعملت مع تنظيم الضباط الأحرار في إشعال الثورة في 14 يوليو/تموز 1958 وإسقاط الحكم الملكي وتأسيس الجمهورية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.