تحمل ليالي رمضان الكثير من روح الشهر الكريم، في المساء تُضاء الفوانيس وتبدأ جلسات السمر، وبسبب قصر ساعات الإفطار (نحو 10 ساعات هذا العام) فإننا في الغالب ما نصل النهار بالليل، حتى لا تفوتنا بهجة الأمسيات، وبركة الليالي خاصة في الختام. وبحلول العيد يكون أغلبنا قد أصبح كائنا ليليا بامتياز، ونبدأ في التفكير كيف سنعاود بدء العمل في الصباح بعد الإجازة. في الواقع، هذه ليست مشكلة رمضان فحسب، ولكنها أزمة مجتمعنا اليوم عموما، إذ نعيش في عالم لا ينام، تُغرينا البهجة أحيانا في أيام العطلات، والرغبة في إنجاز الأعمال في أيام العمل، بأن نجور على ساعات النوم في الليل.
رفاهية النوم في عالم لا ينام
قبل عدة عقود كان كل ما حولنا مؤهلا لأن ينام الجميع في ساعات المساء، إلى أن وفرت الكهرباء إضاءة ليلية متواصلة. شيئا فشيئا بدأ الليل والنهار يتشابهان؛ الإضاءة، والبث التلفزيوني ونشرات الأخبار، والقدرة على التواصل وحتى التسوق، صارت لدينا رفاهية اختيار الساعة التي سنخلد فيها إلى النوم. بالتزامن مع ذلك بدأ النوم في حد ذاته يتحول إلى شكل من أشكال الرفاهية، إذ صارت ثقافة العمل لساعات طويلة تدعونا إلى تأخير النوم ليصبح في ذيل قائمة أولوياتنا.(1)
لا أحد يكاد ينام بما يكفي في عالم اليوم. ووفق استطلاع أجرته المؤسسة الوطنية للنوم عام 2013، وجد الباحثون أن نحو 65% من سكان الولايات المتحدة يفشلون في الحصول على القسط الموصى به من النوم يوميا، وفي أنحاء العالم المختلفة يتكرر النمط نفسه، فيما يحاول بعضنا عادة الحصول على ساعتين إضافيتين من النوم خلال عطلات نهاية الأسبوع لتسديد ديون النوم، غير أنها لا تكون كافية لتعويض ما يخسره الدماغ طوال الأسبوع. هناك خلل يحدث في جزء مهم من أجسامنا دفع منظمة الصحة العالمية إلى اعتبار قلة النوم اليوم “وباء صحيا عالميا”. (2)
يشير ماثيو ووكر، أستاذ علم الأعصاب وعلم النفس بجامعة كاليفورنيا، في كتابه “لماذا ننام: اكتشف طاقة النوم والأحلام” إلى أن ذلك “الغرور المصطنع” لدى المجتمعات العاملة اليوم هو الذي يدفعها إلى التقليل من أهمية النوم، والتساهل مع قلة ساعاته، بل وتشجيع ذلك أحيانا باعتباره سببا للإنتاجية المرتفعة، رغم أضراره الواضحة. ويؤكد ووكر كيف أن أغلب العاملين لا يدركون كيف تنخفض إنتاجيتهم حين لا يحصلون على النوم الكافي، وكيف تتراجع قدرتهم على أداء أبسط المهام، كما لا يدرك أصحاب الأعمال كم يكلفهم الأمر من أموال طائلة، تقارب ألفي دولار أميركي في السنة للعامل الواحد في بعض الشركات.(3)
الساعة البيولوجية الحائرة
تعمل الساعة البيولوجية على مواءمة وظائفنا البيولوجية مع البيئة المحيطة، فتؤثر في النوم واليقظة والتمثيل الغذائي وإفراز هرمونَيْ الميلاتونين (الذي يساعد على النوم) والكورتيزول (الذي يحفز النشاط)، ومن خلال الضوء تدرك الساعة البيولوجية اليومية بدء النهار. ونتيجة لذلك، فإن التحول السريع في أنماط ساعتها البيولوجية لا يمر دون خسائر؛ حين نحاول النوم في غير المواعيد التي اعتدنا عليها، ويكون التغيير أسرع من قدرة الساعة البيولوجية على التأقلم، فإن مستويات الهرمونات وعملية الأيض تتأثر، وكذلك يؤثر هذا سلبا على الذاكرة والقدرة على التركيز. (4)
حين تضطرب الساعة البيولوجية وتختل وظائفنا نصبح عُرضة لمشكلات صحية، فمثلا يؤدي التمثيل الغذائي غير المنتظم الناتج عن اختلال الساعة البيولوجية إلى التعرض لمخاطر الإصابة بأمراض القلب، ويزيد احتمالية الإصابة بأمراض مثل السرطان، كما يشهد الجسم أيضا انخفاض معدلات هرمون النمو وارتفاع مستويات هرمون الغدة الدرقية، إلى جانب بعض الأمراض النفسية (تتفاقم الأعراض بالطبع حين تكون التحولات كبيرة ومتواصلة، مثل التي يُضطر إليها عمال الحراسة بالمناوبة مثلا، لذا يُنصحون بالتغيير التدريجي لمواعيد المناوبات لتجنب هذا التأثير).(5)
جدير بالذكر أن وقت النوم يتأثر بالجينات أيضا، لدى كلٍّ منا إيقاع بيولوجي يحدد الوقت الأمثل له للنوم والاستيقاظ، هذا ما يدفع بعضنا إلى أن يكونوا أشخاصا صباحيين، وبعضنا الآخر ليكونوا مسائيين أو ليليين، بينما يتأرجح آخرون بين الاثنين، لكن عوامل أخرى تؤثر في الأمر أيضا، مثل العمر والبيئة ومستوى النشاط، ومن خلال التحكم في بعض هذه العوامل ينجح “البوم الليلي” في تغيير دورة النوم خلال 3 أسابيع مثلا، ويصبح بإمكانهم الخلود إلى النوم في موعد مبكر بنحو ثلاث ساعات عن موعدهم المعتاد. (6)
كيف تصبح طائرا صباحيا نشيطا؟
عادة ما ينصح بعض الخبراء بالاستيقاظ في موعد مبكر بنحو ساعتين إلى ثلاث عن الموعد المعتاد في أوقات التحول حتى لو لم تكن قد نلت قسطا كافيا من النوم، لكنها ليست طريقة آمنة لمَن يتطلب عملهم تركيزا فائقا ويؤدي عدم القدرة عليه إلى خسائر لا تُعوَّض، مثل السائقين. وبدلا من ذلك يقدم ستيفن دبليو لوكلي وراسل جي فوستر في كتاب “النوم: مقدمة قصير جدا” وصفة أسهل لإعادة التأقلم مع النهار، وهما يقدمان هذه النصيحة بالأخص لأولئك الذين يعملون في نوبات ليلية أحيانا ونهارية أحيانا أخرى بشكل يبدو معه التحول في مواعيد نومهم صعبا، فيقولان إن التحول يتطلب ترحيل ساعة واحدة يوميا.(7)
وأيًّا كان ما ستختاره، عليك في اليوم الأول تحديد الوقت الذي تريد الاستيقاظ فيه يوميا، والنهوض من السرير في هذا الوقت مهما كان مقدار التعب، الخطوة التالية كفيلة بمعالجة الأمر؛ تعرَّض لضوء الشمس، إذ يعزز التعرض للضوء صباحا من قدرتنا على ضبط الإيقاع اليومي، وتكيف أجسامنا معه، بعض المشي أو الرياضة تكمل المهمة في إخبار ساعتك الداخلية أن وقت الاستيقاظ قد حان.(8)
لا تستسلم لإغراء الغفوة، إذ تؤدي إلى نتائج عكسية، في العادة يبدأ الجسم بشكل طبيعي في الاستعداد للاستيقاظ قبل ساعتين إلى ثلاث ساعات من وقت الاستيقاظ المعتاد، الغفوة تمنح رسائل مختلطة إلى ساعة الجسم الداخلية، الحالة المثالية لمَن يحصلون على قسط كافٍ من النوم هي الاستيقاظ دون منبه،(9) لكن إذا كنت ستستخدم المنبه فاعلم أن الموسيقى كفيلة بأن تدفع اليقظة في الجسم. وكما تشير دراسة نشرتها مجلة “بلوس وان” (PLoS One) عام 2020 فإن نوع الموسيقى الذي نحدده منبها عند الاستيقاظ يقلل من تأثيرات الخمول، كما تزيد الموسيقى عموما من يقظتنا أكثر من الأصوات الأخرى.(10)
يمكنك أيضا إفساح المجال للضوء الطبيعي ليؤدي دوره في تنبيهك، اترك الستائر مفتوحة لينفذ ضوء الشمس عند الشروق ويرسل إلى عقلك إشارة بحلول موعد الاستيقاظ، وإذا كان الجو غائما أو مظلما أو يصعب التعرض لضوء الشمس، فيمكن الاستعانة بضوء صناعي ساطع يماثل ضوء الشمس (light therapy lamp).
خلال ساعات النهار احرص على التعرض لضوء الشمس لتتغير ساعتك الداخلية، وبحلول المساء خفف الإضاءة تدريجيا وتجنب الضوء الأزرق الذي يُعَدُّ أكبر المشكلات في ضبط الساعة البيولوجية، إذ يثبط إفراز هرمون الميلاتونين، وهو الهرمون الذي يتراكم خلال اليوم وينظم النوم. (11) قبل موعد النوم بنحو ساعتين نكون أكثر حساسية للضوء، بحيث يمكن للتعرض للضوء الشديد خلالهما أن يحد من رغبتنا في النوم لاحقا، كما يمكن للتعرض للضوء الساطع أن يوقظنا في وقت مبكر عن المعتاد. (12)
ولكي يكتمل انتظام الساعة الداخلية، احرص على تناول وجبات الطعام في مواعيد محددة وامتنع عن تناول العشاء بعد السابعة مساء، وتجنب الكافيين بعد الثالثة مساء، وامتنع عن القيلولة المتأخرة بعد الرابعة، لتعد جسمك لنوم جيد في المساء. وكذلك حدِّد روتينا ليليا قبل الخلود إلى النوم، بحيث يتأهب عقلك لموعد النوم، يُنصح هنا أولا بالابتعاد عن ضوء الشاشات الأزرق، ثم ممارسة أنشطة مهدئة مثل القراءة أو الاستماع إلى الموسيقى الهادئة. وأخيرا جهِّز غرفة نوم مظلمة وهادئة، واستخدم الستائر المناسبة والمفروشات المريحة، ورتب الغرفة جيدا كي يمكنك الاسترخاء فيها.(13)
إلى جانب ذلك، يشير الباحثون في هذا النطاق إلى أنه يجب اعتبار السرير مكانا للنوم فقط، لا تدخل إليه بأي شيء لا يناسب النوم، وخاصة هاتفك الذكي، الذي يؤثر بقوة على درجة انتباهك ويعده البعض السبب الرئيسي في الأرق بالنسبة للمراهقين والشباب، الذي يمكن في بعض مراحله أن يكون مرضيا.
في الصباح التالي جهِّز روتينا صباحيا ممتعا لبضع دقائق يمنحك شعورا بالنشاط ويُمثِّل دافعا للنهوض من السرير؛ قد يكون مشروبك المفضل أو دقائق في الشرفة لتأمل نباتاتك. الخطوة المهمة الأخرى التي ينصح بها المتخصصون هي الحفاظ على هذا النظام في غير أيام العمل، للحفاظ على الروتين الجديد وحتى لا تضطر إلى إعادة المحاولة من جديد.(14)
نوم كافٍ وجيد أيضا
بقي القول إن اعتناءنا بالحصول على القسط الكافي من النوم يجب أن يصاحبه اهتمام بجودة النوم أيضا، في دراسة نشرتها الكلية الأميركية لأمراض القلب في شهر مارس/آذار الماضي (2023)، أكد الباحثون أن ساعات النوم وحدها ليست كافية للحصول على الراحة، وأن جودة النوم تُحدث فرقا أيضا، بحيث يمكن أن تضيف سنوات إلى عمر الفرد. وقالت الدراسة إن الرجال الذين يحصلون على ساعات نوم كافية بجودة عالية تطول أعمارهم نحو خمس سنوات مقارنة بمَن لا يحصلون على ما يكفي من النوم، في حين يمكن أن يزيد النوم الجيد أعمار النساء بما يصل إلى عامين. (15)
تُعَدُّ مسألة جودة النوم شخصية إلى حدٍّ كبير، لكن تظل هناك بعض النقاط تكشف لك مدى جودة نومك مثل بيئة النوم الهادئة والمظلمة، وعدم التعرض لضوء الشاشات، وعدم وجود صعوبة في النوم دون الاستعانة بأقراص منومة، والنوم المتواصل دون قلق، والنوم قبل مُضي أكثر من 20 دقيقة من الدخول إلى السرير، والتنفس الجيد أثناء النوم، وأخيرا عدم وجود اضطرابات واضحة أثناء ساعة النوم، وفي حالة مواجهة مشكلة في تلك الأخيرة تحديدا، فإن مراجعة مختص في هذه المسألة يمكن أن يكون استثمارا جيدا في تحسين جودة الحياة بشكل واضح.
________________________________
المصادر:
- النوم: مقدمة قصيرة جدا
- لماذا ننام: اكتشف طاقة النوم والأحلام
- المصدر السابق
- لماذا ننام: اكتشف طاقة النوم والأحلام
- Shift work: coping with the biological clock
- Genome-wide association analyses of chronotype in 697,828 individuals provides insights into circadian rhythms
- النوم: مقدمة قصيرة جدا
- Can a Night Owl Become an Early Bird?
- How to Become a Morning Person
- Alarm tones, music and their elements: Analysis of reported waking sounds to counteract sleep inertia
- Can a Night Owl Become an Early Bird?
- What to know about circadian rhythm
- How to Become a Morning Person
- Can a Night Owl Become an Early Bird?
- Getting Good Sleep Could Add Years to Your Life
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.