بيروت- تكاد لا تمر أيام في لبنان بلا نشوب توترات أمنية بين أفراد أو مجموعات تتبع لقوى سياسية مختلفة، تسفر عن سقوط قتلى وجرحى، وتعكس واقعا سياسيا مشحونا بخطاب طائفي ومناطقي.
وفاقمت حادثة انقلاب شاحنة أسلحة تابعة لحزب الله بمنطقة الكحالة (ذات الغالبية المسيحية) بجبل لبنان (نقطة معروفة بـ”كوع الكحالة” تشهد حوادث سير دائما) حالة التوتر السياسي والطائفي، بعدما أسفرت الأربعاء الماضي عن مقتل شخص من الحزب وآخر من الكحالة نتيجة تبادل إطلاق النار.
وتبعها أمس الخميس إطلاق عشوائي للرصاص بالهواء أثناء تشييع قتيل حزب الله، وأصيبت سيارة وزير الدفاع موريس سليم برصاصة، مع استمرار التحقيقات في الحادث.
ظهور مسلح على الأرض وعلى أسطح المباني وإطلاق نار كثيف أثناء تشييع فادي بجاني في الكحالة
pic.twitter.com/8b86rrlC7H— مصدر مسؤول (@fouadkhreiss) August 11, 2023
كما انشغلت وسائل إعلام محلية بمقطع فيديو حول مقتل أحد المؤيدين لحزب القوات اللبنانية قبل أيام، بمنطقة “عين إبل” جنوبا، نتج عنه صدور بيانات سياسية تتساءل عن ظروف مقتله.
وتُضاف هذه الأحداث على قائمة التوترات المتنقلة وسقوط قتلى وجرحى بالأشهر الأخيرة، والتي أخذت منحى طائفيا وسياسيا ومناطقيا، وبسياق موازٍ للاشتباكات التي شهدها مخيم عين الحلوة (جنوب لبنان) للاجئين الفلسطينيين. وتضاعف القلق مؤخرا مع تحذير عدد من السفارات العربية لرعاياها من الوضع الأمني بلبنان.
كما تتنامى ظاهرة ربط كل حدث أمني باسم المنطقة الواقع فيها، لما تحمله من رمزيات بهويتها؛ ويحذر كثيرون من التعاطي مع المناطق كمربعات طائفية وسياسية تهدد السلم الأهلي، في حين يرى آخرون أن تفاعل القوى مع التوترات بمثابة استقطاب تعبوي نتيجة حالة الانسداد السياسي.
ويربط المحللون الهشاشة الأمنية بالتأزم السياسي، بعد تعثر المساعي الداخلية والخارجية لانتخاب رئيس يملأ شغورا مستمرا منذ نحو 9 أشهر، وبظل شغور عدد كبير من مناصب الدولة الإدارية والأمنية والقضائية، وآخرها منصب حاكمية مصرف لبنان. كذلك، تعيق الخلافات الدور التشريعي للبرلمان، وتتقيد حكومة تصريف أعمال بصلاحياتها المحدودة وهي منبثقة أساسا من برلمان 2018.
نموذج الكحالة
وهنا، ينطلق الكاتب والمحلل السياسي علي حمادة من معادلة “غياب الاستقرار السياسي يؤدي تلقائيا لتوترات أمنية”، معتبرا أن تعاظم الشرخ بين مكونات بلد مركب كلبنان، يفاقم المخاطر الأمنية.
ويرى حمادة، في حديث للجزيرة نت، أن ثمة خلافا عضويا حول هوية لبنان، ومركزية الخلاف برأيه تدور حول الموقف من حزب الله وسلاحه “الذي يراه خصومه فوق القانون والدولة”.
ويجد المحلل حادثة “الكحالة” تجسيدا للتناقض، ويقول “رغم وجود السلاح بيد الطرفين، فإن النظرة لتكوين حزب الله العسكري، والذي يتفوق على سلاح الشرعية اللبنانية المتجسدة بالجيش، مختلفة لجهة الحجم والأدوار”.
ويتحدث حمادة عن خصوصية المناطق الجبلية “كالكحالة”، معتبرا أن ثمة اعتيادا على عبور شاحنات محملة بالسلاح لحزب الله، “لكن انقلابها وكشف محتوياتها من الأهالي المعارضين للحزب، جعل التوتر الأمني متوقعا”.
بالمقابل، يرى الكاتب والمحلل السياسي توفيق شومان أن حادثة “الكحالة” وليدة لحظتها وبالصدفة، لكنها لا تنفصل عن الاحتقان السياسي والطائفي العام. ويقول إن “الخطابات التحريضية لن تتعدى المنابر لأن الجميع يدرك خطورة الانزلاق للفتنة”.
ويُذكّر شومان -في حديثه للجزيرة نت- أن إشكالية سلاح حزب الله عمرها نحو عقد ونصف، “لكن طرحها بهذه الطريقة لن يؤدي لمكان، لأن أكثر من نصف اللبنانيين يؤمنون بشرعية سلاح المقاومة ويريدون الحفاظ على وظيفته بتوازن الرعب ضد إسرائيل”.
تداعيات مقلقة
ويرى المحلل شومان أن حزب الله أصبح هدفا لقوى داخلية وخارجية، وأن الإشكالية حول سلاحه “يجب أن تُعالج بالحوار، لأن التحريض سيفاقم التوتر فقط”.
ويرى أيضا أن ما يشهده لبنان هو من مخلفات الوقت الضائع سياسيا، و”بلوغ مرحلة عبثية بالأزمة المالية منذ تعثر انتخاب رئيس جديد للبلاد”.
ويقول “إذا تجاوزت التوترات الأمنية الخطوط الحمراء، فقد تدفع لانتخاب رئيس، لكننا لا نلمس بوادر ذلك منذ اصطدام مساعي المبعوث الفرنسي للبنان جان إيف لودريان وتعثّر مسعى أطراف اللجنة الخماسية للبنان”.
من جانبه، يجد علي حمادة أن عوامل الاهتزاز الأمني حاضرة أكثر من أي وقت منذ اندلاع الأزمة في خريف 2019، ويرى أن أحداث مخيم عين الحلوة ناقوس خطر لتحول لبنان إلى أرض حاضنة وجاهزة لمختلف الصراعات الأمنية بظل تنامي ظاهرة التسلح الموروثة من الحرب.
ويجد المحلل، أن الأجهزة الأمنية والقضاء يقصّران بمعالجة الأحداث الأمنية ولجمها. ويقول بقلق إن “الجيش شبه عاجز عن ضبط الوضع حين يقع توتر له حساسية أمنية طائفية ومناطقية، وكأنه يفقد هوامش التحرك لتنفيذ مهمات حاسمة وعادلة بين أطراف النزاع”.
الفدرالية والسياق التاريخي
ورغم عدم تبنّيه رسميا وصعوبة تنفيذه، تناقش أحزاب عديدة -المسيحية تحديدا- داخل صالوناتها، طرح الفدرالية أو مشروع “اللامركزية الموسعة” باعتبارها حلا للأزمات وأوّلها التوترات الأمنية، بينما تعتبر قوى أخرى أن الطرح تقسيمي ويناقض هوية لبنان كبلد واحد للعيش المشترك.
ويقول حمادة “رغم نصّ الدستور على وحدة لبنان المركزية، فإنه عمليا مفدرل طائفيا ومناطقيا، ما يفاقم التناقض بإدارة شؤونه”.
بالتوازي، يرى توفيق شومان أن بعض القوى تستغل التوترات لطرح الفدرالية واللامركزية الموسعة. ويقول “هذه الدعوات مستعادة من الحرب، لكن الظروف مختلفة حاليا، حيث يخشى الجميع تمدد التوترات الأمنية خارج مساحتها الأصلية”.
توتر ينذر بتفتت هوية لبنان
وهنا، ترى أستاذة علم الاجتماع بالجامعة اللبنانية أديبة حمدان، أن التوترات تستدعي مراجعة تاريخ المجتمع اللبناني الذي يُعد التسلح فيه حقيقة راسخة بكنف دولة ضعيفة ومترهلة.
وتقول حمدان للجزيرة نت، إن الجماعات اللبنانية في رحلة بحث مستمرة لتوفير أمنها، و”كرست الطوائف كبديل للدولة حتى بالمجال الأمني، والدليل استسهال اللجوء للسلاح عند أصغر إشكال بين أبناء منطقتين مختلفتين”.
وترى الأكاديمية أن انهيار وضع اللبنانيين عزز “الدعوات التقسيمية لغاية توفير الأمن الذاتي طائفيا”. مستنكرة الخطاب الإعلامي الطائفي والتحريضي “الذي يُنذر بتفتت صيغة لبنان وهويته”. لكن التعويل -كما تقول- “على العقلاء لأن الجميع سيخسر من التدهور القائم”.
وحول السيناريوهات المقبلة، يقول المحلل علي حمادة إن لبنان بسباق طويل المدى، بين استمرار الوضع على حاله أو انفجاره. مرجحا ارتفاع الأصوات بالمجتمع المسيحي ضد حزب الله وسلاحه “بسبب عدم نضوج تسوية رئاسية تنقذ لبنان”. ويقول “لبنان ما يزال صندوق بريد، ونحن بحالة توتر إقليمي تصاعدت مؤخرا وقد تستمر لنهاية العام”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.