بعد يوم من الانتصار الكبير الذي حققه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية، بدأت انعكاساته تظهر بالفعل على الحالة الإقليمية. فسارع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى إجراء اتصال هاتفي بأردوغان لتهنئته على الفوز، وقررا معًا رفعًا فوريًا لتمثيل الدبلوماسية وإعادة تبادل السفراء. كان مسار المصالحة التركية المصرية قد قطع بالفعل أشواطًا كبرى بعد إطلاق المحادثات الاستكشافية قبل نحو عامين، ثم الزيارات المتبادلة على مستوى وزراء الخارجية في الأشهر الأخيرة، والتواصل بين قادة البلدين.
وبدا واضحًا في الآونة الأخيرة أن القاهرة تريثت في خطوة تبادل السفراء إلى ما بعد الانتخابات التركية؛ لا نعلم تمامًا إذا ما كانت مصر راهنت على تحول سياسي في الانتخابات، أم أنها فضّلت التريث لكي لا يُحسب تبادل السفراء قبل الانتخابات على أنه اصطفاف إلى جانب أردوغان في معركته الانتخابية. لكنّ الوضع بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة يدفع باتجاه تتويج مسار المصالحة بين البلدين بخطوة تبادل السفراء.
كما هو معلوم، فإن تركيا نجحت منذ بدء انعطافتها الإقليمية قبل 3 سنوات في تسوية خلافاتها مع معظم القوى الإقليمية التي دخلت في مواجهة معها خلال العقد الماضي، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ومع أن مسار المصالحة التركية المصرية ظهر حتى قبل التحول الذي طرأ على علاقات أنقرة مع الرياض وأبو ظبي، إلا أن بعض القضايا الخلافية الرئيسية بين البلدين كالوضع في ليبيا ظلت عقبة أمام تسريع هذا المسار.
ولا يعني التوافق الأخير بين أردوغان والسيسي على رفع فوري لمستوى التبادل الدبلوماسي أن الخلاف بشأن ليبيا انتهى، لكنّه يُعطي مؤشرا على أن البلدين قررا -على الأقل- ألا يبقى عائق أمام استعادة طبيعية للعلاقات. في ظل البيئة الجديدة الإيجابية في العلاقات الثنائية، فإنه سيكون من السهل على الجانبين التركيز على سبل التوصل إلى أرضية مشتركة لإدارة المصالح الثنائية في ليبيا.
استمرار الانخراط التركي الإيجابي في قضايا المنطقة لن يضمن فحسب مصالح تركيا في المنطقة، بل يُشكل أيضًا مصلحة للشركاء العرب الذين سيكون بمقدورهم الاعتماد بقدر أكبر على تركيا لتحقيق التوازن الإقليمي
النقطة المشتركة الرئيسية التي تلتقي فيها مصر وتركيا في ليبيا هي إحلال السلام في هذا البلد وإعادة توحيد مؤسساته، وهي نقطة تبدو جذابة للتفكير في مزايا التعاون بشكل أكبر من مزايا استمرار الخلافات بشأن الموقف في ليبيا.
مصر قوة إقليمية مؤثرة في كثير من القضايا التي تعني تركيا، كشرق المتوسط وليبيا والشرق الأوسط عمومًا؛ والتحول في العلاقات من الخصومة إلى التعاون سينعكس إيجابًا على الوضع الإقليمي وعلى مصالح البلدين في هذه القضايا. لا يُمكن لتركيا أن تخلق وضعًا جديدًا متكاملًا في سياستها الإقليمية من دون معالجة جميع خلافاتها مع مصر. جانب أساسي من الاهتمام التركي بالمصالحة مع مصر يكمن في مساعي أنقرة لتعزيز وضعها في الصراع الجيوسياسي مع اليونان وقبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسط.
كذلك تسعى لتكون جزءًا أساسيًا من مشاريع التعاون الإقليمي في مجال الطاقة. إتمام المصالحة بين تركيا ومصر ستكون له آثار كبيرة على الجغرافيا السياسية الإقليمية بالنظر إلى أهمية هاتين القوتين. وبالتأكيد، فإن هذه الآثار ستكون إيجابية وستدفع باتجاه تعزيز الاستقرار الإقليمي ونقل العلاقات بين القوى الفاعلة في الشرق الأوسط إلى مستوى أكثر إنتاجية، من حيث العمل الجماعي على تسوية القضايا الإقليمية المزمنة مثل ليبيا وسوريا.
مع ذلك، لا تزال المشكلة السورية إحدى العقبات الكبيرة في طريق تصفير تركيا لمشاكلها مع جوارها الإقليمي الجنوبي. فمن غير المرجح أن نشهد تطورًا فوريًا في مسار المفاوضات التركية السورية في المستقبل المنظور. والاعتقاد المنطقي بأن الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي بدا مستعجلًا على تحقيق خرق في الحوار مع النظام السوري قبل الانتخابات لتوظيفه في صراعه الانتخابي مع المعارضة، ستتراجع اندفاعته لأنّه تخلص من الضغط الانتخابي. وسيتعين على النظام السوري التعامل مع حقيقة صعبة، وهي أن أردوغان لم يعد مضطرًا بعد الآن للمساومة من منطلق الحاجة على مصالح تركيا الأساسية في سوريا.
مع ذلك، فإن الدوافع التي أملت على تركيا هذه الانعطافة في العلاقة مع النظام السوري تتجاوز في الواقع الحسابات الانتخابية الداخلية التي كانت سائدة قبل الانتخابات التركية. ستبقى رغبة أنقرة قائمة في التوصل إلى تفاهمات مع النظام تُلبي مصالحها الأمنية ومساعيها لإعادة اللاجئين السوريين وتحقيق تقدم في التسوية السياسية السورية، لكنّها ستُدير سياستها السورية الجديدة من منطلق قوة.
على صعيد العلاقات التركية مع الخليج، فإنه لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن العلاقة الجديدة التي أنشأها أردوغان مع الخصوم الخليجيين السابقين منذ 3 أعوام كالسعودية والإمارات ستتراجع، بل على العكس، ستترسخ بشكل أكبر أهمية الشراكة التركية الخليجية بالنسبة للطرفين، لأن نظامًا إقليميًا جديدًا في الشرق الأوسط يتشكل، فإن العلاقات الجيدة لتركيا مع دول المنطقة لا سيما الخليج ومصر، ستدفع باتجاه تحقيق الاستقرار الإقليمي وإيجاد سبل لتسوية النزاعات الإقليمية المزمنة وبناء نظام إقليمي جديد متوازن.
إن استمرار الانخراط التركي الإيجابي في قضايا المنطقة، والذي سيتواصل في ظل الولاية الجديدة للرئيس رجب طيب أردوغان، لن يضمن فحسب مصالح تركيا في المنطقة، بل يُشكل أيضًا مصلحة للشركاء العرب الذين سيكون بمقدورهم الاعتماد بقدر أكبر على تركيا لتحقيق التوازن الإقليمي والاستفادة من حضورها القوي في المنطقة وتأثيرها على سياسات القوى الكبرى، لا سيما روسيا والغرب، في الشرق الأوسط.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.