الاستعمار في المتحف.. كيف تمحو إسرائيل وجود الفلسطينيين وآثارهم؟ | ثقافة


يبدو محو فلسطين ووجود الفلسطينيين وكأنه مهمة الدولة الإسرائيلية منذ بدايتها.

كانت أسطورة “أرض بلا شعب” جزءا من عقيدة تأسيس إسرائيل، وخلال أحداث النكبة عام 1948، كانت هذه المهمة واضحة عندما تم اقتلاع القرى والمدن الفلسطينية من الأرض في حملة عسكرية منهجية، ولا تزال سياسات العنف والاستيطان تجاه المجتمع الفلسطيني تأكيدا على إرادة الإلغاء والمحو.

لكن “الاقتلاع والمحو” ليس سياسة مادية لتغييب وجود فلسطين والفلسطينيين فحسب، بل يتم أيضا من خلال رواية التاريخ وإعادة سرد أحداث الماضي، وتلعب المتاحف الإسرائيلية دورًا نشطا في هذا الجهد الاستعماري.

وفي مقاله بموقع الجزيرة الإنجليزية، يقول الأكاديمي سومديب سين، الأستاذ المشارك في دراسات التنمية الدولية بجامعة روسكيلد الدانماركية إنه لاحظ، قبل سنوات، أثناء إجراء بحث ميداني في حرم جامعة القدس العبرية في جبل المشارف (الذي يسمى أيضا المشهد أو سكوبوس) بالقدس أن الحرم الجامعي يكاد يكون متحفا يحفل بتراث التاريخ اليهودي، كمحاولة لإكساب الطابع الإسرائيلي للأرض، بينما يتعمد تعزيز الجهل حول حقيقة أن الجامعة بنيت على أراض فلسطينية مسروقة.

رعب المتاحف الإسرائيلية

قبل شهر ونصف الشهر تقريبا، أدانت جهات فلسطينية قرار الاحتلال تحويل قلعة القدس التاريخية، التي تقع قرب منطقة باب الخليل بالبلدة القديمة، إلى ما يسمى متحف “قلعة داود” مؤكدة أن في ذلك اعتداء صارخا على تاريخ المدينة وتزييفا للوقائع التاريخية.

ويقول سومديب سين إن “متحف برج داود” يقوم بمهمة تغييب الوجود الفلسطيني أيضا، إذ يشير موقع المتحف على الإنترنت إلى أن قلعة القدس هي “نقطة التقاء القديم والحديث، الشرق والغرب، التاريخ والابتكار، التجربة والإبداع” ويعتبر أن المتحف يعرض تاريخ القدس متشابكًا مع أهمية القلعة لليهودية والمسيحية والإسلام، كما يقول المتحف في تعريفه.

10-أسيل جندي، البلدة القديمة، القدس، صورة عامة من أعلى قلعة القدس التاريخية وتظهر فيها المئذنة محاطة بسقالات حديدية ضمن أعمال الترميم التي تدعي إدارة المتحف انها بهدف الحفاظ على المئذنة(الجزيرة نت)
قلعة القدس التاريخية مئذنتها محاطة بمنصات حديدية ضمن أعمال ترميم يدعي الاحتلال أنها للحفاظ على بنيتها (الجزيرة)

ومع احتلال شرقي القدس عام 1967، سيطرت إسرائيل على القلعة وحولتها إلى متحف يطلق عليه متحف “برج داوود” أو “متحف تاريخ أورشليم القدس” ومنعت الصلاة مباشرة في مسجدي القلعة الواقعة قرب باب الخليل (أحد أبواب البلدة القديمة للقدس).

ولطالما اتُهم ذلك المتحف بمحو التراث الإسلامي والفلسطيني بشكل منهجي، وأزالت هيئة الآثار الإسرائيلية القبة والهلال من مئذنة القلعة، وتشير الشروحات التي تصف القطع الأثرية بوضوح على سمات “اليهودية” و”المناظر الوطنية الإسرائيلية” لها.

المئذنة التي بناها السلطان بن قلاوون في قلعة القدس (الجزيرة نت)
المئذنة التي بناها السلطان بن قلاوون في قلعة القدس (الجزيرة)

وحوّل الاحتلال أحد المسجدين إلى قاعة عرض تابعة للمتحف رغم وجود محراب ومنبر بداخلها، وكان هذا المسجد هو الجامع الوحيد غير المسجد الأقصى بمدينة القدس خلال الفترة العثمانية.

11-أسيل جندي، البلدة القديمة، القدس، صورة من داخل مسجد قلعة القدس ويظهر بها المنبر والمحراب وتعلو المئذنة هذا المسجد(الجزيرة نت)
داخل مسجد قلعة القدس ويظهر بها المنبر والمحراب (الجزيرة)

بيت عائلة برامكي

يدعي “متحف على التماس” أنه ينقل التاريخ المنقسم للقدس (الشرقية والغربية) ومعروضاته تهدف إلى “إثارة قضايا اجتماعية متنوعة للمناقشة العامة” لكن وصف “المتحف” يفتقر إلى اعتراف بأن المبنى كان منزلا مملوكًا في السابق لعائلة برامكي الفلسطينية التي أجبرت على مغادرة القدس في النكبة.

JERUSALEM: Palestinian families with property deeds dating back to 1948 denied access to homes in West Jerusalem
“متحف على التماس” كان مسكن عائلة برامكي الفلسطينية التي أجبرت على مغادرته (رويترز)

وتميز منزل الفلسطيني أنضوني برامكي -الذي بناه 1932 وأهداه لزوجته إفلين- بطرازه المعماري المميز فأصبح يُعرف بـ “بيت إفلين برامكي”. وكان أنضوني مهندسًا معماريًا ذائع الصيت، أنهى دراسته في أثينا، وأشرف على بناء عدد من الكنائس وعدد من بيوت الفلسطينيين في الأحياء الجديدة التي نشأت خارج البلدة القديمة للقدس نهاية القرن 19.

في أعقاب حرب عام 1948، هُجرت العائلات الفلسطينية التي سكنت البيت ومعها عائلة برامكي. وحطّ التهجير بعائلة برامكي نهاية المطاف في رام الله، وهناك ساهم الابن الأكبر لها جابي في تأسيس جامعة بيرزيت، وكان رئيسها بالوكالة ما بين عامي 1975 و1993.

وتحوّل البيت في الفترة ما بين 1948 وحرب 1967 إلى ثكنة عسكرية إسرائيلية، خاصّة أنه قريب من “بوابة مندلبوم” التي كانت تقع على خطّ الحدود بين غربي القدس المحتلة وشرقيها، والتي كانت تحت الحكم الأردني.

وخلال 19 عاما هذه كان أنضوني حريصا على تفقد منزله من وراء الحدود. ويقول ابنه جورج “كان والدي يصعد إلى أعلى مبنى جمعية الشبان المسيحية الموجودة على الطرف الأردني المقابل لبيته، ليتفقد أحواله”.

المنظمات الصهيونية

تحتفي المتاحف أيضًا بدور المنظمات (العصابات) شبه العسكرية اليهودية خلال إنشاء إسرائيل، وتحاول ترسيخ أسطورة “أرض بلا شعب” وقامت هذه المنظمات بعنف منهجي هائل في مدن مثل يافا وحيفا وعكا وطبريا أثناء النكبة. فمثلا قامت منظمة البالماح شبه العسكرية، بتأسيس مستوطنات إسرائيلية جديدة وكانت نشطة في “عمليات التطهير” في الجاليات الفلسطينية الريفية.

ويقول الأكاديمي سومديب إنه عندما زار “بيت البالماح”، أو متحف البالماح، في تل أبيب قبل 10 سنوات، بدا له أن سياسة المحو والإزالة مستمرة، وفي ذلك الوقت، كان المعرض في المتحف يستخدم تقنية عرض ثلاثية الأبعاد، وكان الزوار يمشون عبر إعادة تمثيل سينمائية لحياة المجندين الشباب في البالماح خلال ما يسميه الاحتلال “حرب الاستقلال الإسرائيلية”.

وبينما كان عنف البالماح يستهدف الشعب الفلسطيني، كانت فلسطين والفلسطينيون مغيبين عن قصة المتحف. وفي الواقع، لم يتم استخدام مصطلحات “فلسطين” و”الفلسطيني” أبدًا في الفيلم الذي يعرضه المتحف.

“العرب”

بدلاً من ذلك، تم الإشارة ببساطة إلى الفلسطينيين باسم “العرب”. هذا بحد ذاته، يرمز إلى نوع من عدم الاعتراف بالفلسطينيين كمجتمع وطني مختلف عن غيرهم في العالم العربي.

ولكن حتى عندما تمت معالجة الوجود الفلسطيني (أو “العربي”) تم وضعه على هامش السرد، وعلى وجه التحديد، كانت هناك فقط حالتان ذكر فيهما “العرب” في المتحف.

كانت المرة الأولى عندما أشارت شخصيات العرض ثلاثي الأبعاد إلى المقاتلين الفلسطينيين ببساطة باسم “عصابات عربية متوحشة”. وكانت الثانية خلال نقاش بين اثنين من مجندي البالماح حيث يظهرون لحظات من التساؤل حول “مشكلة” اللاجئين الفلسطينيين، ويسأل أحد شخصيات الفيلم “ماذا يجب أن نفعل مع اللاجئين؟” يرد الآخر بنبرة غير مبالية “افعل ما تعتقد أنه الأفضل”. كأن كلا الشخصيتين لم يدركا كيف أصبح هؤلاء المهجّرون لاجئين، ويبدو أنهم ببساطة لا يهتمون بمأساة التهجير الجماعي للفلسطينيين من بلاد هي وطنهم ووطن أجدادهم.

بدا مثل هذا المحو لذكر الفلسطينيين واضحاً أيضاً خلال زيارة للأكاديمي سومديب عام 2015 إلى متحف هاجاناه في تل أبيب، وخاصة في معرض حول الثورة الفلسطينية الكبرى الفترة (1936-1939) ضد الانتداب البريطاني وسياسته في تشجيع الهجرة اليهودية بلا حدود.

الثورة الفلسطينية

وصفت المؤرخة البريطانية روزماري صايغ الثورة الفلسطينية على أنها واحدة من أولى الحراكات الوطنية الهامة من قبل الفلاحين الفلسطينيين في المسار الطويل للنضال الفلسطيني من أجل التحرر، وكانت الردود العنيفة من الفصائل شبه العسكرية مثل هاجاناه مقدمة للنكبة.

كما كانت الثورة لها أهمية إقليمية كأطول “نضال تحرري ضد الإمبريالية في العالم العربي” حتى بداية حروب الاستقلال الجزائرية، بحسب المؤرخة نفسها.

ولكن المعرض المقام في المتحف لا يعترف بالأهمية التاريخية للثورة أو بوجود الشعب الفلسطيني وقضيتهم الوطنية. بل يصف الثورة العظمى ببساطة بأنها “أعمال شغب” و”اضطرابات دموية” قادها “العرب” في فلسطين واستهدفت اليهود وكذلك البريطانيين.

يترك الزائر للمتحف بانطباع أن “العنف” تم تنفيذه بدون سبب أو سبب آخر سوى إيذاء السكان اليهود.

المتاحف والاستعمار

وطالما استخدمت المتاحف بشكل عام وسيلة لعرض والاحتفاء بالقوة الاستعمارية ومغامرات بناء الإمبراطورية. في الواقع، ناقش المؤرخ روبرت ألدريتش فكرة عامة مفادها أن “بناء الإمبراطورية وبناء المتحف يسيران متوازيان جنبا إلى جنب”.

وغالبا ما تساعد نماذج النباتات والحيوانات، والتماثيل والأحجار الكريمة، والمومياوات والجماجم -التي تم جمعها أو سرقتها والتي تعرض في المتاحف- (غالبًا ما تساعد) في تأسيس الروايات المهيمنة حول الشعوب والثقافات “البدائية” في أراض بعيدة وغريبة.

فقد تأسس المتحف الملكي (البلجيكي) لأفريقيا الوسطى في بروكسل عام 1898 بواسطة الإمبراطور ليوبولد الثاني للاحتفال بـ “نموذج التحضر” البلجيكي في الكونغو، وصد الانتقادات الموجهة لسياساته القمعية هناك والإعلان عن التفوق الحضاري للبلجيكيين مقارنة بـ “القبائل الكونغولية غير المتحضرة”.

وفي هاواي الأميركية، تشير معروضات أكاديمية هونولولو للفنون (أو متحف بيشوب) بشكل طفيف إلى الاستعمار فحسب. وهذا الإغفال مقصود لإبقاء الجهل حول تاريخ الإطاحة بالمملكة الهاوايية -التي أسسها السكان الأصليون للجزر- على يدي رجال الأعمال البيض والجيش الأميركي والعملية العنيفة التي أصبحت من خلالها هاواي مستعمرة للمستوطنين الجدد.

أما المتحف البريطاني في بلومزبري، لندن، فهو أحد أروع الأمثلة على كيفية بناء الإمبراطورية وبناء المتحف جنبًا إلى جنب؛ إذ يظهر تنوع المعروضات التي تأتي من كل أنحاء العالم كنموذج “للاحتكار اللامحدود لقوة الإمبراطورية البريطانية” ووصف المؤرخون كتالوج معروضاته بأنه “صندوق الحرب الإمبراطوري”.

المقاومة من خلال المتاحف

مع مواجهة الفلسطينيين للعنف العسكري الإسرائيلي المستمر، قد يبدو عنف المتاحف غير مهم. ولكنه يذكرنا بكيفية استخدام التاريخ والتراث سلاحا استعماريا.

ولهذا السبب، يعد استخدام نفس أدوات التاريخ والتراث أمرا حيويا لمقاومة القمع الإسرائيلي. في الولايات المتحدة، يسعى متحف الشعب الفلسطيني بالعاصمة واشنطن للحفاظ على التاريخ والفنون والثقافة الفلسطينية. وقد شهد ارتفاعًا في متوسط الزوار شهريا من 132 شخصًا عام 2022 إلى 277 شخصًا عام 2023، في ظل تحول الرأي العام لصالح فلسطين.

عام 2016، تم افتتاح متحف فلسطين في بيرزيت في الضفة الغربية المحتلة. وجاء معرضه الأول بعنوان “تحيا القدس” مستعرضا “الجانب المعاش” لمدينة تعاني من الأسرلة والإغلاق، والسياسات “الاستبعادية” التي تستهدف الفلسطينيين.

وإذ يستخدم المستوطنين الروايات التاريخية والتراث المادي لمحو الوجود الفلسطيني بالأرض الفلسطينية، تبرز الجهود الفلسطينية المقاومة كيف يمكن التصدي لهذه الجهود برد فعل جريء “نحن هنا، ونحن موجودون”.




اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post 7 أخبار رياضية لا تفوتك اليوم
Next post أتذكرون فستان الخداع البصري؟.. صاحبه متهم بقتل زوجته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading