عمّان- يحذّر الأكاديمي الأردني حسين طه محادين من سطوة الهاتف المحمول، ويقول إن القوي يفرض ثقافته ونماذجها الحياتية على الطرف الأضعف، معتبرا “أننا مهددون بما أسميه اللاأسرية، فالعولمة أحدثت فجوة جيلية داخل الأسرة العربية وخلخلت وصاية الأسرة على أفرادها”.
محادين أستاذ علم الاجتماع والجريمة في جامعة مؤتة (جنوبي الأردن) ناقش في مؤلفه الجديد “تكنولوجيا العولمة كمهدد لقيم وأدوار الأسرة.. الهاتف المحمول وثقافة الصورة أنموذجان” الكثير من المخاطر التي تهدد الأسرة العربية فكرا وواقعا كونها المصنع البشري للمجتمع “إذا صلحت صلح المجتمع كله” في مرحلة أصبح المجتمع المدني هبة عصر العولمة كما يبدو.
وفي حديثه للجزيرة نت رصد محادين التغيرات الواقعة على الأسرة العربية جراء قضاء أفرادها كبارا وصغارا ساعات طويلة أمام شاشة الهاتف المحمول مستقبلين ما تفرزه ثقافة الآخرين من صور وممارسات مغايرة لهويتنا الأسرية ومنظومتها القيمية الدينية المتكاملة، بحسب قوله.
وتحدث محادين بإعجاب عن مؤتمر الدوحة للمناظرات والحوار، فقال إنه كان واحة حوار لامست بوعي احتياجات الشباب، وأكسب المشاركين مهارات التحاور والدفاع عن آرائهم وتسويقها، فإلى الحوار:
-
في مؤلفك “تكنولوجيا العولمة” أطلقت صرخة تحذير من مخاطر الهاتف المحمول وثقافة الصورة على الأسرة العربية.. لماذا؟
لعل أبرز ما لاحظته كأكاديمي راصد ومحلل لطبيعة واتجاهات التغيرات العميقة والمتسارعة في طبيعة الأسرة العربية المعاصرة ظهور مؤشرات خطيرة تشي بأن الأسرة العربية قد أصبحت مهددة فكرا وواقعا في بنيتها وأدوارها المفترضة من حيث بداية ضعف دور الأبوين وتراجع أدوارهما في التربية والتوجيه للأبناء من الجنسين -ولا سيما اليافعين منهم- وفقا لمنظومة قيمنا العربية الإسلامية، كون الأسرة المصنع البشري الذي يغذي المجتمع العربي المسلم بأسباب استدامته، منها ارتفاع نسبة الطلاق لدى الشباب قبل الدخول وبالتالي قلة فرص الإنجاب، وأبرز تحدٍ للدور الأساس للزواج هو إشباع الغريزة الجنسية بطريقة شرعية.
كما أن دور التكنولوجيا كأيديولوجيا غربية وصينية معولمة بحكم شعبية انتشار واقتناء الهواتف المحمولة حتى بين أطفالنا قد وفر فرصا إضافية لإقامة علاقات التعارف غير الشرعية التي تتنافى مع منظومة قيمنا العربية الإسلامية، سواء من قبل المتزوجين أو العزاب الشباب الذين يعانون من ارتفاع تكاليف الزواج ونسبة البطالة.
إن ثقافة الصورة التفاعلية المباشرة قد سرّعت انتشار وتنامي المهددات ممثلة في إدمان البعض مشاهدة الأفلام الإباحية أو ما سميته في كتابي “الجنس الإلكتروني” تحديدا، الأمر الذي يتطلب منا كأكاديميين ومؤسسات مجتمع التنبه.
وبعيد ظهور العولمة الساعية إلى ضبط ونمذجة قيم وسلوكيات يتجه بعض أفراد أسرنا إلى الأنموذج الغربي المعولم القائم على اعتبار مركزية الجسد وإعلاء شأن كل ما هو حس لذيّ بحجة إطلاق الحريات الفردية.
-
نعيش عولمة إجبارية ولا مفر من الانفتاح على الخارج، ومن الصعب عدم مسايرة روح العصر، فكيف يمكن الحفاظ على توازن واستقرار أسرتنا والتوفيق بين تحديات تكنولوجيا العولمة؟
نحن بحاجة ملحة لتعميق قيم الحوار العلمي والفكري المتوازن داخل تنظيمات مجتمعنا المرجعية في التربية والتوجيه بالمعنى الإنساني وبالضد من تسيد القيم الفردية المنفلتة التي تتبناها العولمة انطلاقا من الأسرة وطبيعة العلاقات الآمرة بين أفرادها، وبما يتناسب مع عمر كل جيل بحيث تكون التوعية والحوار بالحسنى قاعدة هذا الحوار.
فقد استطاعت العولمة أن تقلب بسطوة تأثيراتها علينا مضامين التنشئة الاجتماعية التي كان الآباء والأمهات يقومون بها إلى حد أن الأبناء هم الذين يُكسبون الآباء مهارات وأفكار الحياة في ظل تمثلهم قيم الحداثة وما بعدها، وفي ذروتها تمكنهم من التقدم في التعامل مع التكنولوجيا التي أصبحت ضرورة حياتية لحفاظنا على عضويتنا في العالم الجديد.
وهذا تحدٍ مضاف يتطلب تكامل الأدوار مع المؤسسات التعليمية المختلفة مرورا بالكنيسة والمسجد والإعلام وذروته ثقافة الصورة التوعوية التي يجب أن يستثمر فيها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة المعبرة عن هويتنا الثقافية المنفتحة على الإنسانية دوما التي يجب ألا تلغي خصوصيتنا الحضارية.
-
يوصف المجتمع العربي بأنه مجتمع فتي.. من وجهة نظرك كيف يمكن حماية شبابنا من مخرجات العولمة في مرحلة يرى كثيرون وأنت منهم أنها تروج لأفكار وممارسات تهدم قيم الأسرة العربية وتعمق أزمة مجتمعاتنا ودفعها نحو الفوضى؟
علميا وعمليا، عندما يشعر الشباب أو الشابات -وهم الذين يشكلون ثلثي سكان الوطن العربي- أن علاقاتهم مع كل الأشياء حولهم قائمة على المنفعة الآنية والمصلحية دون إصغاء لتوجيهات وتربية أولياء أمورهم باعتبار هؤلاء تقليديين فإن هذا يشير إلى خلخلة واضحة في التراتب الأسري الذي كان مسلّما به.
ولعل الفجوة الجيلية داخل الأسرة العربية ازدادت بشكل صارخ، إذ ساهمت التكنولوجيا في تعميمها بما وفرته من فرص هائلة للأبناء في اختيار نماذجهم في التفكير والتقليد، وظهرت ما تعرف بـ”العربيزية” التي تمزج بين العربية والإنجليزية رغم أن معظم شبابنا لا يتقنون تماما أيا من اللغتين.
وهذه بعض القيم والممارسات التي يتمثلونها نتيجة لكثرة مشاهدتهم للأفلام التي تسوق كأنموذج يصلح للاقتفاء من قبل أبناء وأسر المجتمعات النامية باعتبار العلاقات الأسرية في المجتمع الغربي هي التي تصلح للحداثة حاليا ومستقبلا.
-
يرى مفكرون أن تكنولوجيا العولمة تلّوح بتعميم نوع من الفراغ النفسي والأخلاقي والثقافي.. كيف ترى ذلك؟
لا شك أن إدمان أفراد الأسرة على أدوات التكنولوجيا قد عمق انتشار القيم الفردية، وهذا واحد من أهدافها التي جعلتني أرصد كيف أن أفراد الأسرة العربية وإن كانوا متقاربين جسديا/ جغرافيا أثناء تناولهم وجبة طعام -ورغم تراجع مثل هذه الفرصة جراء انشغال الأبوين والأبناء في عملهم أو دراستهم في بلد أو مدينة أخرى- فإن كل واحد متواصل مع من يحب عبر العالم، وبالتالي هناك حالة من الاغتراب يعيشها الإنسان المتعولم في الأسرة والمجتمع، وأصبحت العلاقات الأسرية الراهنة واهنة كثيرا مع المحيطين رغم تجاورهم الصوري.
-
بعض أطروحاتك تقول “إن أدوات التواصل التكنولوجي ليست محايدة لأنها حامل ومحمول للحضارة الغربية، وهي مغايرة لهويتنا الأسرية ومنظومتها الدينية”، فلماذا ننسحب أمام حضارتهم ولا نواجهها بمخزوننا الحضاري؟
الحصانة الحضارية للأمم تشترط الإشباع الفكري والثقة بالهوية الجمعية، وبالتالي عندما تكون أفكارنا وثرواتنا البشرية والطبيعية الضخمة متوازية مع هشاشة سياستنا الرسمية وحجم الحريات في بلداننا العربية الإسلامية -وهي التي لم تنجح بعد في إشباع احتياجاتنا كمواطنين- فمن الطبيعي أن نتأثر باندفاع كمغلوبين حضاريا مع ما يبثه الغرب التكنولوجي كونه الغالب استنادا إلى أطروحات العلامة ابن خلدون، الأمر الذي يستلزم الأخذ بالحكمة الصينية القائلة إن الرغبة في الشفاء جزء من الشفاء نفسه، فهل نحن فاعلون؟
-
وأخيرا، شاركتم في المؤتمر الدولي الأول للمناظرة في الدوحة، ما رأيكم في المناظرات ومحتواها؟
من الواضح أن وصول مؤسسة قطر إلى عقد المؤتمر الدولي الأول للمناظرات والحوار في الدوحة مؤخرا إنما يمثل تتويجا لعمل مؤسسي متراكم والمجهودات النوعية التي تمثلت في دعم ونشر قيم المناظرة القائمة على التمكن العلمي والمعرفي بالقضايا المطروحة داخل قطر والعالم، الأمر الذي ساهم في إكساب المشاركين مهارات التحاور والدفاع عن الرأي وصولا إلى الإقناع، وبالتالي النجاح في تسويق فكرة المناظر.
ولعل ما أضاف تميزا إلى أوراق وحوارات المؤتمر الحيوية التي لامست بوعي هادف من قبل المنظمين احتياجات الشباب لأهمية إتقانهم فنون المناظرة في مواضيع حياتية تهمهم هي حلقة واحة الحوار التي ختم بها المؤتمر وجاءت بعنوان “إمكانية صمود الأسرة العربية أمام سيولة الحداثة والعولمة”، حيث قمت كمشارك بتحليل واقع الأسرة العربية في مرحلتين، هما الأسرة العربية في مرحلة الحداثة النسبية وتأثير العالمية عليها واستقرارها المعقول حتى تسعينيات القرن الماضي.
أما المرحلة الأخرى فتدور حول الأسرة العربية ما بعد الحداثة وجيل الشباب “زد” (Z)، إذ توصلت في تحليلي العلمي إلى استنتاجات مفادها أننا مهددون في الوصول إلى ما أسميه “اللاأسرية” التي تشير ميدانيا إلى تراجع نسبة المقبلين على الزواج وأهميته في ظل ارتفاع نسب البطالة والفقر وانتشار الحروب في المجتمع العربي وتزايد حالات الطلاق والاستعاضة عن الزواج الشرعي -ولو بالتدريج- بالعلاقات الجنسية غير الشرعية التي توفرها وسائل التواصل التكنولوجي التي شجعت على العلاقات السريعة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.