فرانسوا رينيه دو شاتوبريان أديب وشاعر ورجل سياسة فرنسي، ولد عام 1768، وهو أحد أهم أعلام الأدب الفرنسي، وأحد رموز فرنسا السياسية منذ عصر النهضة، وعاش حتى عام 1848، وشهد 3 ثورات فرنسية.
تولى أعلى المناصب في الدولة وتموضع في مركز أحداثها على مدار 60 سنة متواصلة، وعُرف بأنشطته الفكرية والسياسية، وكان لاجئا سياسيا لأكثر من عقد من الزمان، ثم غدا سفيرا لبلاده في الدولة التي لجأ إليها.
ظلت حياته السياسية بين مد وجزر حتى رحيله، وحققت كتاباته شهرة واسعة، حتى وُصف بأنه “أعظم كتاب عصره”، واستشهد به الزعيم السياسي الفرنسي شارل ديغول أكثر من مرة في مؤتمراته الصحفية.
المولد والنشأة
ولد فرانسوا رينيه دي شاتوبريان في سان مالو (شمال غربي فرنسا) يوم الرابع من سبتمبر/أيلول 1768، وكان أصغر إخوته الستة (وتوفي رابعا بينهم) لعائلة أرستقراطية عريقة، وأعاد والده مجدها السابق بفضل نجاحه التجاري في صناعة النقل البحري، فأصبح الصبي فرانسوا في عمر الثالثة يحمل لقب “نبيل”.
أمضى شاتوبريان سنواته الأولى في الريف مع أخت عليلة ومهملة وشديدة العصبية إلى حد المرض، تحت رعاية خادمة عجوز تدعى “لافنلوف”، حيث وجدا الحنان الذي افتقداه من أمهما.
في السابعة من عمره انتقل للعيش مع جدته لأمه في بلانكويت، وحين بلغ التاسعة استقر مع والديه في كومبورغ في منطقة بريتاني عام 1775.
قضى الصبي طفولته وبداية شبابه في قصر والديه إلى جانب شقيقته لوسيل التي تكبره بسنتين، وألف بينهما اتفاق الذوق وتشابه المزاج، إذ كانا يتقاسمان النزهات وحب الطبيعة، وهي من شجعته على الكتابة بعدما لمست في رسائله نثرا لطيفا وأطلقت عليه لقب “الساحر”. وفي مقدمة مجموعة شعرية نشرها عام 1829 ذكر أنه كتب الشعر منذ مراهقته.
وكان والده أكثر اهتماما بشقيقه الأكبر، ومع ذلك لم يكن منبوذا من قبله.
خلال عامي 1784 و1786 أَلَمّ به حزن قاتل بين سنتي 16 و18 من عمره، وحاول الانتحار في الغابة ببندقية صيد وضعها على جبهته، لكنه أحجم عن إطلاق الرصاص، وسمى هذه الفترة في مذكراته “سنتان من الهذيان”.
كان فارس كومبورغ نحيلا صغير الحجم منحني الكتفين جافي الطبع شاردا دائما، ورث من أبيه العبوس والعزلة وقلة الكلام، ومن والدته اكتسب الدين، إذ كان مستعدا منذ صغره للأنشطة الروحية، لكنه لم يرغب في أن يصبح كاهنا.
عاش مآسي كبيرة في حياته، فقد أُعدم شقيقه وسجنت أمه وزوجته وأختاه، وصودرت ممتلكاته وظل مطاردا 10 سنوات يعاني النفي وحياة الفقر.
حمل في شبابه اسما مستعارا في مناسبتين: الأولى اسم “شفالييه” حين نشر أول نصوصه “حب الريف”، والثانية اسم “دي لاسان” عندما عاد إلى بلده متخفيا عن خصومه الثوار.
عُرف بحبه للقطط، وقيل إنه لما غادر روما عندما كان سفيرا بها اصطحب معه الهر “ميشيتو” الذي رباه ليون الـ13 قبل وفاته.
الدراسة والتكوين العلمي
تلقى شاتوبريان دروسه الأولى في المدرسة الدينية “دول كوليج”، وكان مشهورا بين زملائه ببراعته في الإنشاء وجمال عباراته، كما كان شغوفا بالقراءة لا يفارقه الكتاب.
التحق بكلية “دي دينان” ليكون قسا، وقيل إن هذا كان رغبة منه ليخفف والداه من حدّة توبيخهما له، وبعد فشله في دراسته الدينية غادر المدرسة واعترف لهما أنه لا يريد أن يكون قسا وعاد إلى كومبورغ.
في الـ17 من عمره غادر بلدته إلى العاصمة باريس ودخل كلية رين، حيث برز بذكائه وذاكرته وأظهر تفوقا في الرياضيات وتعلم الرسم والمبارزة واللغة الإنجليزية.
اندمج في الوسط الأدبي الفلسفي في عصره وخالط رجال الفكر والأدب والفن في بلده من خلال اتصاله بوالد زوجة أخيه “دي مايشرب” في باريس.
قرأ لفلاسفة الأنوار أوغوستين وفولتير وديدرو، وطالع كتابات جون جاك روسو لأول مرة بين عامي 1784 و1785عندما كان عمره 16 عاما. وعدّه أستاذه ومعلمه، وقال “إن كتب روسو هي التي شكلت وعيي وجعلت مني ما أنا عليه الآن”، غير أنه هاجمه لاحقا وصنفه كاتبا من الدرجة الثانية.
سمحت له تجربة المنفى بالانفتاح على الآداب والثقافات الأجنبية والتشبع بأفكار ومبادئ الرومانسية في إنجلترا خصوصا، كما كانت رحلاته وأسفاره تغذي أدبه وفنه، منذ أن رحل شابا لأميركا، واستمر ذلك في مطالعاته اللاحقة.
رحلاته وأسفاره
- رحلة إلى أميركا: وكانت بين عامي 1791 و1792، حيث طاف معظم أنحاء القارة الأميركية الشمالية، وقد دارت تساؤلات كثيرة حول إقامته بها، وخاصة الحوار الذي قال إنه أجراه مع الرئيس الأميركي آنذاك جورج واشنطن، ولم يجد المؤرخ ريمون لوبينغ خلال مراجعته وثائق تلك الفترة أي أثر للمقابلة المزعومة، والواقعة الحقيقية الوحيدة أنه تمكّن من رؤية الرئيس عن بعد، أثناء مروره في عربة.
- إقامة في إنجلترا: كانت إقامته بها من سنة 1793 إلى 1800 لاجئا سياسيا لمدة 7 سنوات، وهنالك أخرج باكورة آثاره الأدبية “مساهمة حول الثورات المقارنة”.
- رحلة إلى الشرق بين عامي 1806 و1807 في سن الـ40، يذكر فيها أنها زار إسبرطة وأثينا والقدس والإسكندرية وقرطاج وقصر الحمراء في الأندلس.
- هجرة إلى ألمانيا حيث انضم إلى جيش ملكي معادٍ للثورة الفرنسية وبدأ كتابة نصوص حول التاريخ والسياسة.
الحياة المهنية
لما بلغ سن الرجولة التحق بالحرس الملكي في بريست عام 1786، ثم أصبح ملازما في فرساي في الـ16 من عمره، وملازما ثانيا للمشاة في فوج نافار لفترة قصيرة.
انخرط الضابط الشاب في إحدى الكتائب العسكرية، لكنه انسحب منها عندما قرّرت الانضمام للثورة الفرنسية، واكتفى بدخل متواضع من ميراث تركه له أبوه عند مماته.
في 15 يوليو/تموز 1792 تطوع في جيش الأمراء اللاجئين الهاربين من الثورة واشترك في حصار ثيونفيل، وفي أكتوبر/تشرين الأول أعفي من الجيش لما أصابه من مرض وجروح.
قصد إنجلترا عام 1793 من دون أي دخل مادي، وكان مورد عيشه ما كان يصله من مال قليل من أسرته، وأجره الهزيل نظير اشتغاله بأعمال الترجمة وتدريس اللغة الفرنسية لبنات النبلاء والبورجوازيين في المنطقة، قبل أن يصبح مدرسا للغة الفرنسية في مدرستين من المدارس الداخلية.
صار كاتبا مشهورا من كتّاب المرحلة الأولى الممتدة بين عامي 1800 و1825، وقال عن هذا التوجه “ذهبت لأكون رحالة في أميركا وعدت لأكون جنديا في أوروبا، ولم أتابع حتى النهاية هذا ولا ذلك من هذه المسارات، فقد انتزع جني شرير مني العصا والسيف ووضع القلم في يدي”.
انتُخب عام 1811 عضوا في الأكاديمية الفرنسية لكنه لم يجلس بين أعضائها إلا عام 1824 بعد أن عادت الدولة الملكية.
وفد تقلد عدة مناصب عليا في الدولة لكن تقلّب الحكومات كان يدفعه في كل مرة للاستقالة من منصبه فيعود إلى الكتابة في الصحف.
عام 1818 أسس “مجلة المحافظ الأدبية والسياسية، وهي جريدة كاثوليكية غرضها الدفاع عن الملكية. بالإضافة إلى كتابة مقالات في جريدة “ميركيور دي فرانس” وجرائد أخرى، وأخذ على عاتقه الدفاع عن حرية النشر التي أسس من أجلها “جمعية أنصار الصحافة” عام 1827.
الحياة السياسية
كان شاتوبريان ذا نزعة سياسية ملكية وبفعل انتمائه الأرستقراطي تنامت اهتماماته بالسياسة مع اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789، لكن “إرهابها الدموي” عصف بأحلامه فغادر وطنه لمدة 10 أعوام.
سُمح له بالعودة عام 1800 فصار يغشى المنتديات الأدبية وسطع نجمه، لفت نظر نابليون فعينه عام 1803 سكرتيرا أول في السفارة الفرنسية في روما، ثم “متابعا للأمور” في جمهورية فالي السويسرية.
لكنه استقال من منصبه حين علم بإعدام دوق دي أنجيان، فغضب عليه الإمبراطور ونفاه من باريس.
ظل 10 سنوات في الريف، وتحول بيته هناك مقصدا للزائرين بعد أن أصبح متحفا، ولم يعد إلا بعد استعادة عائلة آل بوربون الملكية للعرش، وخلال هذه الحقبة انقسمت حياته السياسية إلى 3 أجزاء:
- الفترة الملكية (1814-1824): اختاره الملك لويس الـ18 عام 1815 وزيرا للدولة ونائبا لفرنسا، ولم يمنعه ذلك من انتقاد حل المجلس الاستشاري وعارض انتقاص حقوق الشعب. ثم تحسنت علاقاته مع النظام الملكي فعين سفيرا في برلين عام 1820 وفي لندن عام 1822 ومفوضا في مؤتمر فيرونا، ثم وزيرا للخارجية، قبل أن يقصى من المنصب عام 1824.
- الفترة الليبرالية (1824-1830): أعلن خصومته لحكومة فيلليل، وكتب مدافعا عن حرية النشر واستقلال اليونان، وشن حربا من أجل المبادئ الليبرالية ضد جميع الإدارات الوزارية. حين سقطت هذه الحكومة عين سفيرا في روما عام 1828، لكنه استقال مع مجيء حكومة بولينياك المتورطة في احتلال الجزائر.
- فترة الملكية والجمهورية (1830-1831): بقي مدافعا عن الملكية من دون التنازل عن الحريات التي أطلقتها ثورة 1830، والتي انتهت بطرد شارل العاشر آخر ملك من فرع بوربون، واستبداله بالملك الدستوري لويس فيليب. وخلال هذه الحقبة تخلى عن المرتبات وألقاب الشرف القديمة في ظل نظام لا يؤيده وقيل إنه ظل طوال حياته يرفض المنح التي يتقدم إليه بها الملك لويس فيليب.
ثم اعتزل السياسة وعكف على تحرير مذكراته، التي باعها مقدما لينفق على حياته واشترط ألا تنشر إلا بعد وفاته.
الإنتاج الأدبي والفكري
كان شاتوبريان مؤرخ نفسه، وهو يقول “كان كتابي الأول قد كتب في لندن عام 1797، وآخر كتاب لي في باريس عام 1844، ليس هناك بين هذين التاريخين أقل من 47 عاما، 3 أضعاف المسافة التي يسميها تاسيت جزءا طويلا من الحياة الإنسانية”.
جمع أمير النثر الفرنسي خلال أكثر من ربع قرن مقتطفات وتحليلات ومخزونا واسعا من الوثائق خرج منها عدد من المؤلفات يوجد فيها كما يقول النقاد أجزاء برمتها غير خليقة بالحياة، مثل أفكاره الفلسفية وتعابيره المتسلطة الجامدة، ثم طريقته في مزج العنصر الكلاسيكي بالعنصر الرومانتيكي.
شكلت المرأة معطى أساسيا ومركزيا في أفكاره وصياغته إلى جانب السياسة ثم الأدب، والبعض يرى أن الكتابة عن نفسه محور رابع في كتاباته.
يصنف المؤرخون إنتاجه الأدبي والفكري، على 3 مراحل أساسية في حياته:
كتابات القلق وعدم اليقين في مرحلة الشباب (كان في الـ29 من عمره)، وأهمها: “مقال في الثورات” قدم فيه قراءة للثورات القديمة والحديثة في علاقتها بالثورة الفرنسية، وقال عن ظروف كتابته “غالبا ما وجب أن أمحو في الليل اللوحة التي رسمتها في النهار، كانت الأحداث تجري أسرع من قلمي وكانت تحدث ثورة تجعل من كل مقارناتي خاطئة”. ويضيف “كنت أكتب على سفينة في أثناء العاصفة وكنت أزعم رسم ما يشبه أشياء ثابتة”.
كتابات العودة إلى الإيمان والدفاع عن العقيدة المسيحية (بين سن الـ30 والـ40)، أهمها كتاب “عبقرية المسيحية”، الذي كتبه في البيت الريفي لخليلته باولين دي بومومنت وبتشجيع منها. وظهر الكتاب كأعظم إنجاز في الدفاع عن المسيحية، وشكل -حسب المؤرخين- نموذجا أرسى مدرسة في تكوين الأسطورة الأوروبية والغربية.
عند صدور الطبعة الأولى كانت فرنسا تمر بفترة قصيرة من الاستقرار النسبي تحت حكم القناصل، فلقي الكتاب رواجا عظيما ووصف بـ”إنجيل الرومانتيكية”، وكان يفوق ما أحرزه أي إنتاج أدبي آخر في القرن الـ18، حتى إن نابليون طلب أن تقرأ له عدة أجزاء منه بصوت عال في عدة أمسيات.
وأضاف إلى الطبعة الثانية رواية قصيرة عام 1802 باسم “رونيه” تعدّ إلى حد كبير سيرة ذاتية لشاتوبريان نفسه، وقال النقاد إن صفحاتها الـ40 المفعمة تشاؤما أصابت جيلا كاملا بمرض العصر، بعد أن مهدت السبيل لظهور الحزن الساحر الرقيق (الرومانسية)، الذي غلب على كثير من النفوس في أوائل القرن الـ19، وقد سادت هذه الحركة الفنون والآداب في فرنسا مدة نصف قرن.
كتابات العزلة في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، وأهمها كتاب “مذكرات ما وراء القبر”، أمضى أكثر من 30 عاما في كتابتها، وهي مزيج سياسي وأدبي وتاريخي واجتماعي وعائلي، اعتمد في صياغته أسلوبا وسطا بين المذكرات والاعترافات.
يقول مبررا كتابتها: “إنني أكتب أساسا لكي أرسم لنفسي جرد حساب عن حياتي، فأنا أريد قبل أن أموت أن أعود إلى أجمل سنوات حياتي وأن أفسر لنفسي مسار فؤادي العصي على التفسير”.
ويقول الكاتب أحمد فؤاد عبد المجيد إنها “لوحة يرى فيها صورة عادات جيل بأكمله عاش في فرنسا في بداية القرن الـ19، وتتابع الأحداث التي أثارت الاضطراب في ذلك العصر… وتعتبر أيضا وثيقة معنوية ونفسية هامة تحدد لنا ملامح مرض الاكتئاب الذي أصيب به وبآثاره معظم كتاب القرن الـ19 من عتاولة الرومانسيين”.
عام 1826 باع شاتوبريان جميع مؤلفاته وأعماله بمبلغ خيالي بلغ 550 ألف فرنك فرنسي، وبعد 10 سنوات، وبضغط الحاجة باع بثلث ذلك المبلغ “مذكراته” التي كان قد قرأ مقتطفات غير منشورة منها في الصالون الأدبي لمدام ريكامييه، واشترت صحيفة لابريس حق النشر الأول للطبع مقابل 96 ألف فرنك.
مزاجه ونفسيته
كيفت الظروف الاجتماعية التي عاشها شاتوبريان شخصيته وشكلت طباعه ومزاجه الكئيب السوداوي، وفي أواخر حياته قال “كان يجب ألا أُولد”، وعمقت عزلة أسرته نزعة الحزن الغالبة عليه منذ أن كان طفلا، فيقول “ينتابني شعور جميل حين أصبح نائيا عن الناس”. كما كان يحب الوحدة والمناطق الموحشة والأراضي غير المزروعة، ويقول “كلما كان الموسم حزينا كلما تناسب ذلك معي”.
لكنه في الواقع لم يكن معزولا كما يذكر، إذ كان مدعوما من عائلة مشتتة بالفعل، لكنها كانت متضامنة مع ذلك “الولد المدلل والصعب”، كما يقول الكاتب الفرنسي “جان كلود بيرشيه” وبعد وفاة شقيقته لوسيل أخذ ينظر إلى كل شيء في الحياة بمنظار أسود.
ذكر المؤرخون أن طفولته الشاذة والغريبة عودته ألا يقيم وزنا لشعور غيره، وجعلته أنانيا متعاليا ومغرورا معتزا بنفسه ومزهوا بذاته وقدراته، حتى إنه كان يزدري أدباء عصره ويدعوهم بالأقزام الذين يلوثون الأدب، ويقول عن نفسه “كيف كان سيصير شكل هذا القرن من دون كتاباتي ومؤلفاتي”.
كانت نقطة ضعفه الأساسية في تعلقه الكبير بالمال، ورغم الثروة الكبيرة التي جمعها كان بارعا في تبديدها، إذ قيل إنه خسر جزءا من ثروته بالقمار.
طغت التناقضات على أعماله وكلماته وكتاباته، ورغم أنه حمل لواء الدفاع عن الدين طوال حياته فإن دينه كان موضع شك وإنكار من قبل معاصريه ونقاده، ويقول صديقه الفيلسوف جوبير “إنه بحث عن ملجأ في الكاثوليكية هربا من عالم ثوري مُرعب بدرجة لا تُحتم”.
كما انتقد المؤرخون مناداته بالأخلاق وبالفضائل المسيحية، لكنه استسلم لأهوائه الجسدية لا سيما غرامياته المفضوحة. وكشفت سيرته العاطفية أنه كان زير نساء وتحملت زوجته التي ارتبط بها عام 1792 فترات علاقاته الغرامية المتعددة حتى وفاتها عام 1847.
وقيل إن ارتباطه بالمرأة كان يدوم 8 أيام فقط، واشتهرت قصصه العاطفية مع 6 خليلات أجبر على الفرار من إحداهن، وتركت أخرى زوجها من أجله، وأخرى ابتاعت قصرا لأجله فتركها بل، واتخذ خليلة له وهو في الستينيات من عمره.
مما قيل عنه
يعد الأديب الفرنسي شاتوبريان مكروها وعرضة لانتقادات كثير من الأدباء الفرنسيين، رغم أنه صاحب أجمل نثر وأعذبه لدى الفرنسيين وقراء الفرنسية كما تؤكد الموسوعات الأدبية العالمية.
ومما قاله أعلام الأدب والنقد الأدبي الفرنسي عنه:
- الكاتب والمؤرخ بروسبير ميرميه: “الأناني الأكبر في القرن كله، فهو مغرور بنفسه ولا يفكر إلا في مصالحه”.
- الروائي أندريه موروا: “تسيطر عليه التناقضات فهو يتأرجح بين الكفر والإيمان وبين التعقل والفوضى”.
- الطبيب أفرامِيوتي: “رغم أنه متستر بالإيمان فإنه يبقى وثنيا في قلبه وحتى النخاع”.
- الروائي إدمون أبوت: “هذا الحيوان (حصان شاتوبريان إيبامينونداس)، لديه نفس عاطفة السيد شاتوبريان، إنه يريد أن يأخذ الماء من كل الأنهار التي يعبرها”.
- الناقد الفرنسي تشارلز سانت بيف: “أصابه الغرور وأتلفه الكبرياء” و”كتاباته جوفاء ومقرفة”.
- الروائي ماري هنري بيل (ستاندال): “كذاب ومنافق من الدرجة الأولى أسلوبه الأدبي متورم”.
- الشاعر ألفونس دي لامارتين: “أديب رديء جملة وتفصيلا”.
- الشاعر ألفريد دي فيني: “محترف نفاق سياسي وأدبي وديني”.
- الروائية جورج صاند: “أدبه بلا أخلاق وكتاباته بلا روح”.
- الروائي جاك كراك: “تافه يتباهى بعبقرية مزعومة”.
- السياسي كلمني مترينخ: “كان طموحه يصل إلى حد الجنون، إنه شخص لا يفكر إلا بامتيازاته ومصالحه الشخصية، ولكنه مع ذلك أصبح أحد الأمجاد الفرنسية لاحقا وما زال”.
- الأديب والفيلسوف جون بول سارتر كان يحتقر أدب شاتوبريان إلى درجة ظل يرفض طيلة حياته إبداء رأيه حوله، وهو صاحب الحادثة الشهيرة التي وقعت في الستينيات عندما ذهب إلى قبره وبال عليه لأنه كان يعدّه كاتبا رجعيا عميلا للملك لويس الـ18 خصم لنابليون.
أهم المؤلفات
- “الثورات قديما وحديثا دراسة تاريخية وسياسية وأخلاقية”، بدأ كتابته عام 1794 ونشره في لندن عام 1797.
- “الناتشيز” مؤلف ضخم يقرب من ألفي صفحة فقدت منه النسخة الوحيدة لسنوات ثم عثر عليها. اقتبس من حوادثها ما جعله موضوعا لروايتين، هما “رواية أتالا” أخد مادتها من سياحته القصيرة شمال أميركا، وذكر أنه احتفظ بأصولها في جراب وقائي أنقذه من رصاصتين صوبتا إليه في ميدان القتال، وقال “إن أتالا مثل الابنة المخلصة لأبيها وضعت نفسها بين أبيها وبين رصاص الأعداء”. طبعت الرواية أكثر من 10 طبعات بين نشرها عام 1801 وعام 1805 ترجمت إلى اللغة الألمانية واللغة الروسية، وعربت هذه الرواية في طبعة لجميل المدور في بيروت عام 1882 وأخرى للمنفلوطي. ورواية “رونيه” نشرت عام 1802، ألف بدايتها في لندن عام 1796 ولما عاد إلى فرنسا نشرها عام 1802.
- “عبقرية المسيحية” نشر يوم 14 أبريل/نيسان 1802 في 5 مجلدات، وعام 1803 ظهرت الطبعة الثانية مصّدرة بإهداء إلى نابليون.
- “مذكرات ما وراء القبر” ألفه في 4 أجزاء بدأها عام 1809 تحت عنوان “ذكريات حياتي”، وضع مخطوطه الأولي بين عامي 1811 و1822 وأنجزه بين عامي 1830 و1841، وعده كثير من النقاد أهم عمل أدبي رومانسي كتبه.
- “الشهداء” نشره عام 1807 وجمع فيه ملاحظات وقصاصات وانطباعات من رحلة بين عامي 1806-1807 إلى الشرق الأدنى.
- “المسار من باريس إلى القدس” صدر جامعا لكل تفاصيل الرحلة إلى الشرق عام 1811، توجد طبعته الأولى في المكتبة الوطنية في باريس والطبعة الرسمية والأخيرة نشرت عام 1826، ثم توالت طبعات متجددة آخرها الطبعة الصادرة عام 2002. وعدّ الكتاب قمة في أدب الرحلات في فرنسا لم يقترب أحد من محاكاتها سوى خادم يدعى جوليان شقيق طاهية شاتوبريان، الذي رافقه في الرحلة وكان يدون كل ما يشاهده إلى أن أصبح كتابا لم ينشره إلا عام 1901 بعنوان “جوليان خادم شاتوبريان”.
- “رحلات في أميركا” لم يظهر إلا عام 1827.
- “وقائع آخر بني سراج” قصة استلهمها من التاريخ العربي الأندلسي أيام زيارته لإسبانيا بعد سقوط غرناطة بـ25 سنة، وقد نقلها للعربية شكيب أرسلان، ظهرت طبعتها الأولى عام 1897 بالإسكندرية، وطبعتها الثانية عام 1924 بالقاهرة.
- ترجمة نثرية بلغة فرنسية مسيحية لكتاب “الفردوس المفقود” لمؤلفه جون ميلتون، وضمن مقدمته دراسة عن الأدب الإنجليزي عام 1836.
الآثار
- “لوحة شاتو بريان” رسمها الرسام الفرنسي آن لوي جيروديه عام 1809، أعجب بها شاتوبريان ولم يقبل بعدها الوقوف أمام أي رسام آخر، وأراد أن تُنقل عنه إلى الأجيال. عرضت عام 1810 وعندما شاهدها نابليون قال: “إنها تبدو كصورة متآمر تسلل من المدخنة” لطغيان الألوان الداكنة وكثرة استخدام الأسود.
- طبق “شاتوبريان” طوره الطاهي مونميراي بناء على اقتراح من شاتوبريان حين كان يعيش في قصر الملك لويس الـ18. أطلق عليه يومها اسم “شاتو” ثم صار يعرف باسمه الحالي حين اشتهر مطعم “مانيي” بتقديمه عام 1862.
- جائزة “كومبور شاتوبريان” جائزة أدبية فرنسية أنشئت عام 1998 وتقدم كل سنة لكاتب يتميز بأسلوب يعد استمرارية لذكرى وأعمال شاتوبريان، الذي أمضى جزءا من شبابه في قصر كومبور.
- “متحف شاتوبريان” يقع في بيته بقرية شاتناي مالابري التي تبعد عن باريس 18 كيلومترا، والذي كان قد اشتراه بفضل رواج كتابيه “آتالا” و”عبقرية المسيحية”، وعاش فيه رفقة زوجته 10 سنوات، لكنه اضطر إلى بيعه بسبب ضائقة مالية. وتم إدراج الموقع كنصب تاريخي عام 1939.
- “مكتبة شاتوبريان ” تم نحتها في شجرة بحديقة بيته وأودعت فيها كتبه وهي متاحة للعموم.
- ترميم حديقة قصر كومبور، وهو أول مساكن الكاتب شاتوبريان وتبلغ مساحته 25 هكتارا. وقام بالترميم “دوني ويوجين بوهلر” وفقا للأوصاف الواردة في مذكرات شاتوبريان بعد وفاته.
- عام 1952 صنف قبر شاتوبريان في سان مالو معلما تاريخيا.
الوفاة
توفي فرانسوا رينيه دي شاتوبريان في الرابع من يوليو/تموز عام 1848 في العاصمة باريس، عن عمر ناهز 83 عاما”، ونقل جثمانه يوم 19 يوليو/تموز إلى مسقط رأسه في سان مالو. أوصى أن يدفن على ساحل البحر عام 1823 وقدم الطلب الرسمي عن طريق صديقه تشارلز كونات ضابط البحرية والمؤرخ. وبعد 13 عاما وافقت بلدية سان مالو عام 1936 على دفنه في جزيرة غراند بي بمنطقة بريتاني الفرنسية.
وكتب على قبره “أراد كاتب فرنسي عظيم أن يستريح هنا ليسمع فقط البحر والريح، يرجى احترام وصيته الأخيرة”.
روى فكتور هيغو أن شاتوبريان كان قبل عام من وفاته -بداية سنة 1847- مشلولا يعجز عن السير على قدميه، وذكر كاتبه الشخصي سابقا أنه في أيامه الأخيرة كان لا يبقى واعيا إلا ساعتين أو 3 في اليوم.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.