خلال إعلان مصري عُرض في وقت سابق من هذا العام لإحدى شركات الاتصالات بمناسبة الاحتفال بعيد الأم، ظهرت مجموعة من الأمهات يشتركن في القيام بسلوك واحد، وهو تفضيل أحد أبنائهن، يظهر هذا التفضيل في صورة محبة زائدة أو امتيازات تجعل هذا الابن مميزا عن بقية إخوته. في أحد مشاهد الإعلان تظهر فتاتان تشبهان بعضهما بعضا وفي عمر واحد، تسأل إحدى الفتاتين الأم عمّن تحب أكثر، تُفاجأ الأم من السؤال وتستنكره بملامح منزعجة، لكننا نعرف في مشهد تالٍ أنها تحب إحداهما أكثر. الرسالة التي كان الإعلان يسعى إلى توجيهها هي أن الأم وإن فضَّلت أحد أبنائها على الآخرين فهي المفضلة لدى جميع الأبناء على حدٍّ سواء، بشعار: “كل سنة وماما المفضلة عندنا كلنا”.
قوبل الإعلان باستياء كبير، إلى الحد الذي دفع الشركة إلى سحبه وحذفه (1) من حسابها على موقع يوتيوب، وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، وكان من الواضح أنه مسَّ وترا حساسا لدى قطاع واسع من المشاهدين، وسلط الضوء على ممارسة خطيرة يمكن أن يكون لها تداعيات واسعة على استقرار الأسرة والحالة النفسية للأبناء.
سيكولوجية التفضيل
“تُفضل نسبة كبيرة من الآباء باستمرار طفلا على آخر”، هكذا يُخبرنا إيلان شريرا، عالم نفس اجتماعي بكلية ليك فورست الأميركية، من خلال مقال نُشر له عبر موقع “سيكولوجي توداي” (psychologytoday)، يُضيف إيلان أن هذا التفضيل يمكن أن يظهر بصور مختلفة ومتنوعة، مثل قضاء المزيد من الوقت مع طفل بعينه، أو زيادة المودة الممنوحة له مقارنة بإخوته، والمزيد من الامتيازات الأخرى التي قد تأتي مصحوبة بمطالبات أقل من الانضباط ومقدار أقل من التوجيه أو حتى الإساءة.(2)
هناك العديد من الأسباب التي تجعل الآباء يولون رعاية أو محبة خاصة لأحد الأبناء، بعض هذه الأسباب قد يبدو عادلا ومنصفا مثل توجيه الاهتمام الأكبر لحديثي الولادة بدرجة تفوق الاهتمام بالأطفال الآخرين الأكبر سِنًّا، والشيء نفسه ينطبق على الأطفال المرضى أو المعاقين. قد يتصالح الأبناء لاحقا عند البلوغ مع مثل هذه الأسباب التي دفعت آباءهم لتمييز أحد إخوتهم عنهم، لكن هناك أسباب تجعل الأبناء يتألمون أكثر من مثل هذا النوع من التمييز، مثل أن يُفضل الآباء الأطفال من جنس معين ويشعرون بأنهم أقرب إليهم من الأطفال من الجنس الآخر.
فمثلا قد تميل الأمهات في بعض الدول العربية إلى تفضيل أبنائها الذكور على الفتيات، يرى البعض أن الرجل هو مَن يحمل اسم الأسرة بالإضافة إلى أنه يُنظر إليه على أنه سند الكبر الحقيقي بعد أن تتزوج الفتيات ويذهبن إلى بيوت أزواجهن، حتى وإن لم يحدث واقعيا شيء من هذا، لكن هذه الأفكار وغيرها تجعل الأم تولي الجزء الأكبر من محبتها واهتمامها للطفل الذكر.
هناك العديد من العوامل الأخرى التي تجعل الآباء يُفضِّلون أحد أبنائهم على الآخرين، أحد هذه العوامل هو ترتيب المواليد، يُفضل الآباء عادة المولود الأول والأخير على الأبناء المتوسطين. يحدث هذا جزئيا لأن الأطفال المتوسطين لن يكونوا أبدا الطفل الوحيد الذي يحظى باهتمام الوالدين، هم دائما مُلحقون بأحد إخوتهم، بينما الابن الأكبر استطاع أن ينفرد بالاهتمام حتى جاء الطفل الثاني، والطفل الأخير أيضا ينفرد بالاهتمام لأن إخوته أصبحوا أكبر ويستطيعون الاعتماد كليا أو جزئيا على أنفسهم. يوضح إيلان أنه بشكل عام، يحصل الابن البكر على معظم الامتيازات، بينما يتلقى المولود الأخير أكبر قدر من المودة الأبوية.(3)
كذلك يمكن أن تؤثر شخصية وسلوك الطفل على كيفية معاملة الوالدين له. يتصرف الآباء بشكل أكثر عاطفية تجاه الأطفال الذين يتمتعون بطبيعة شخصية تجعلهم ألطف سلوكا وأكثر حنانا من إخوتهم، في الوقت الذي يوجِّه خلاله الآباء المزيد من الحزم والانضباط نحو الأطفال الذين يتصرفون أو ينخرطون في سلوكيات سيئة.(2)
الطفل هو الضحية
ولكن أيًّا ما كان السبب أو الدافع وراء تفضيل أحد الأبناء، فإن الضحية هنا هو الطفل وحده لا غيره. يؤثر تفضيل أحد الأبوين لطفل على الآخر على سلامة الطفلين العاطفية، وإن كان الطفل غير المفضل يتأثر سلبا بدرجة أكبر. يمكن أن يفقد الطفل المُهمَل احترامه لذاته ويصاب بالاكتئاب ويفقد الثقة في نفسه أيضا، وهذا بدوره يؤثر سلبا على الأداء الدراسي لهذا الطفل ونموه الفكري.
توضح الدكتورة شيلي فلايس، طبيبة الأطفال وأم لأربعة أطفال، أن المشكلة هنا تكمن في أن تصور الطفل لكونه الأقل تفضيلا يمكن أن يؤثر بوضوح على تقديره لذاته. تُضيف فلايس: “أعتقد أن الأطفال الذين يشعرون بأنهم أقل تفضيلا هم أكثر عُرضة للتصرف بشكل سلبي، خاصة عند وصولهم إلى سن المراهقة. التمتع بتقدير قوي للذات في تلك السنوات أمر مهم للغاية، وإذا اعتقد الأبناء بالفعل أنهم كانوا أطفالا سيئين، فقد يتصرفون بشكل سلبي تماما خلال مرحلة المراهقة”.(4)
درس الباحثون في جامعة بريغام يونغ بولاية يوتا الأميركية هذا التأثير السلبي الذي يمكن أن يحدث للأطفال الأقل تفضيلا خلال سنوات المراهقة، وتوصلوا إلى أن الأطفال الذين يرون أنفسهم على أنهم الأقل تفضيلا كانوا أكثر عُرضة لتعاطي المخدرات والكحول والسجائر خلال سنوات المراهقة.
يقول أليكس جنسن، أستاذ علم النفس الذي قاد فريق الباحثين بالدراسة السابقة: “هناك تصور ثقافي بأنك بحاجة إلى معاملة أطفالك بالطريقة نفسها، أو على الأقل بشكل عادل. ولكن إذا أدرك الأطفال أن سلوكك أو مشاعرك تجاههم لا توزع بشكل عادل، فعندئذ تبدأ المشكلات في الظهور”. لقد وجدت دراسات سابقة أن العديد من الآباء، إن لم يكن معظمهم، لديهم طفل مفضل. ورغم أن الآباء عادة ما يسعون لإخفاء ذلك، فإن هذا الإخفاء لا يتم بنجاح دائما، فعادة ما يُدرك الأبناء هذا الأمر.
أراد جنسن، الذي يقول إنه كان الطفل المفضل لدى والدته، التعمق أكثر في تأثير تفضيل الأبوين لطفل على إخوته. لذلك اختبر هو وزملاؤه 282 زوجا من الأشقاء المراهقين، تتراوح أعمارهم بين 12-17 عاما، وسألوهم عن كيفية تعامل الآباء مع أطفالهم عموما، وما إذا كان أحدهما مُفضلا لدى أحد الأبوين. كشفت نتائج الدراسة أنه كلما زاد الاختلاف الذي لاحظه الأبناء في المعاملة، زاد احتمال تعرضهم للإدمان.(5)
أيضا خلال دراسة أُجريت عام 2010 بعنوان “تفضيل الأمهات وأعراض الاكتئاب بين الأطفال البالغين”، فُحِصَت بيانات من 671 حالة من الأمهات والأطفال في 275 عائلة في منطقة بوسطن الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، لاستكشاف ما إذا كان تفضيل الأمهات لأحد أطفالهن مرتبطا بالرفاهية النفسية gلأبناء. توصلت الدراسة إلى أن الأشقاء الذين شعروا أن أمهم تفضل أو ترفض باستمرار طفلا على آخر كانوا أكثر عُرضة للإصابة بالاكتئاب في منتصف العمر. كشفت الدراسة، التي نُشرت في “مجلة الزواج والعائلة”، أن هذه النتائج المحتملة يمكن أن تؤثر على كلٍّ من الطفل المُفضل وغير المُفضل.(6)
هنا يتضح أن التأثير السلبي لا يقتصر على الطفل المُهمَل فقط، بل يمتد ليشمل الطفل المُفضّل أيضا. عادة، الأطفال الذين يُفضَّلون على إخوتهم ويحظون بمعاملة مميزة وامتيازات خاصة يُصبحون مدللين أكثر مما ينبغي. يمكن لهؤلاء الأطفال إظهار نوبات غضب غير ضرورية، بالإضافة إلى أنهم يشعرون باستحقاق دائم لمعاملة خاصة ومميزة خارج المنزل تُشبه تلك التي يتلقونها داخله. أيضا قد يشعر الأطفال المفضلون بالتميز والتفوق، ويميلون إلى الاعتقاد بأنهم يستطيعون كسر القواعد. كل هذه النتائج يمكن أن تؤثر سلبا على قدرة الأطفال المفضلين على الحفاظ على علاقاتهم الاجتماعية، كما أنها تؤثر سلبا على حياتهم الدراسية وسلوكهم في المدرسة ثم حياتهم المهنية لاحقا.
العلاقة بين الإخوة تتضرر للأبد
بخلاف ما سبق، فإن العلاقة بين الطفلين اللذين يتضرر كلٌّ منهما بشكل مختلف عن الآخر، جراء تفضيل الأبوين لأحدهما تتأثر هي الأخرى، الطفل الذي لم يحظَ بالتفضيل وعانى من الإهمال من المرجح أن يحرص على التنافس دوما مع أخيه، التنافس هنا قد لا يكون صحيا، لأنه يحدث بدافع الغيرة. خلال سنوات النمو، التي لا يكون الطفل خلالها مسؤولا بالكامل عن تصرفاته ومُدركا لتبعاتها، يمكن للطفل الغيور أن يحاول إيذاء شقيقه المُفضّل لدى الأبوين، أو التسبب في إصابته.(7)
تشير دراسة استقصائية إلى أن تفضيل الأبوين لأحد الإخوة، أو حتى تصور الأبناء لوجود مثل هذا التفضيل، يمكن أن تكون له عواقب سلبية بعيدة المدى على العلاقة بين الإخوة، وعموما تُجمع الدراسات في هذا النطاق على أن هذا السلوك قد يؤجج حالة الاستياء بين الأشقاء، فالنتائج تقول إن 48% من الأميركيين الذين نشأوا في أُسَر لم يكن فيها طفل مفضل يقولون إنهم كانوا على علاقة وثيقة جدا بأشقائهم عندما وصلوا إلى مرحلة البلوغ، بينما أفاد أقل من 30% من أولئك الذين يعتقدون أن والديهم كان يُفضلون طفلا مُحددا بعدم وجود علاقة وثيقة مع أشقائهم.(8)
يوضح الدكتور كارل بيلمر، مدير معهد كورنيل لبحوث الشيخوخة، أن المشاعر السلبية للطفل غير المفضل لا تكون تجاه الأخ المُفضل فقط، بل إنها تمتد لتشمل الأم أيضا أو الأب الذي يُمارس التفضيل. يقول بيلمر: “قد يكون لدى الأطفال الأقل تفضيلا مشاعر سلبية تجاه أمهم أو أخيهم المفضل على حدٍّ سواء. أرى المرضى، وقد وصلوا إلى الخمسينيات من العمر، ما زال لديهم مشاعر حول كونهم الطفل المفضل أو غير المفضل. لديّ مريض في الستينيات من عمره لا تزال أمه على قيد الحياة، وما زال يحتفظ بمشاعر سلبية ويشعر بالإهانة عندما تحتاج والدته المسنة إلى شيء ما وتلجأ إلى أخته. رغم مرور السنوات والعقود، ما زال يريد أن يشعر بأنه مميز لدى والدته”.(9)
هل يمكن تجنب هذه الآثار؟
توضح ميشيل ليفين، المعالجة الأسرية، الطريقة المُثلى للتعامل قائلة: “أهم شيء يمكن للوالد فعله إذا قال الطفل إنه يعتقد أن أخاه هو المفضل هو الاعتراف بمشاعر الطفل. يجب ألا تقول الأم شيئا من قبيل “ليس لديّ ابن مفضل”، كما أنها يجب ألا تتجاهل مشاعر الطفل. إذا كان هذا ما يشعر به الطفل، فيجب الاعتراف بأن الأمر يأتي من مكان ما، وهو نابع من وجهة نظر الطفل ورأيه. لذلك من المهم عدم تجاهل الأمر”.
تخصيص الوقت لسماع طفلك عندما يعبر عن شعوره بأنه غير مفضل، والاعتراف بما يشعر به، والعمل معا لإيجاد طرق لمساعدته على عدم الشعور بهذه الطريقة قد يكون أفضل نهج لحماية طفلك من هذا الشعور وما يترتب عليه من آثار. يمكن لبذل القليل من الجهد فقط أن يُحدث فرقا كبيرا في التقريب بين الآباء والأطفال.(4)
بالنسبة للأشخاص البالغين، الذين ما زالوا يشعرون بالكثير من المشاعر السلبية الناتجة عن عدم كونهم الابن المُفضل لدى أحد والديهم، فتوجِّه لهم منصة “فيري ويل مايند” بعض النصائح التي تُمكِّنهم من التعامل مع مثل هذه المشاعر، منها: عدم أخذ الأمر على محمل شخصي. هنا يجب فهم أن والدك أو والدتك قد لا “يحبان” الشقيق الآخر أكثر، هم قد يشعرون فقط بأنه أقرب أو أكثر اهتماما بحياتهم. من ناحية أخرى، قد يكونون غير مُدركين من الأساس لتفضيلهم هذا، بشكل واعٍ قد يعترفون فقط بأنهم يُحبون كل أبنائهم بدرجة واحدة متساوية، وبالتالي فهم لا يقومون بفعل التفضيل اللاواعي هذا لإيذاء مشاعرك.
يجب أن تحرص أيضا على ألا تنافس إخوتك ولا تلومهم على تفضيلهم، حتى لو كانوا يبذلون قصارى جهدهم ليظلوا المفضلين، فلا يمكنك لومهم على رغبتهم في الحصول دائما على حب والديهم، فقط تقبَّل أن علاقتك بوالديك تخصك وحاول أن تجعلها منفصلة عن علاقات الأشقاء. ستشعر أيضا بتحسن إذا حرصت على تقبُّل حقيقة الموقف، وقبلت أنك قد لا تحصل على القدر نفسه من الدعم والموافقة من الوالدين كما تريد، ولا بأس بذلك، رُبما سيُمكِّنك هذا من التمتع في الواقع بقوة شخصية أكبر.
أخيرا، إذا كانت لديك عائلة خاصة بك، فيمكنك التركيز على توفير ما ترغب في الحصول عليه من عائلتك الأكبر في أسرتك الصغيرة الخاصة. ركِّز على ما تشاركه مع أبنائك، حتى لا تقوم بالخطأ نفسه الذي عانيت منه، ركِّز أيضا على ما يمكنك تقديمه لنفسك في حياتك الخاصة. وإذا لم تتمكن من التعامل مع المشاعر السلبية الناتجة عن كونك لم تكن الطفل المُفضل لأمك أو لأبيك، وشعرت بضغط كبير من هذه المشاعر وكنت تشعر أنك بحاجة إلى دعم إضافي لإدارة هذا الضغط، فيجب ألا تتردد في التواصل مع متخصص.(10)
——————————————————————————————-
المصادر:
1- حذف إعلان فودافون عن «عيد الأم» بعد أزمة كبيرة على الـ «فيس بوك»
2- When Parents Play Favorites
3- Birth order, sex of child, and perceptions of parental favoritism
4- What Happens to Kids When Parents Play Favorites?
5- Kids’ Perception Of Parents’ Favoritism Counts More Than Reality
6- Mothers’ Differentiation and Depressive Symptoms among Adult Children
7- Parental favouritism: harmful effects on children
8- The Problem with Parental Favoritism
9- Long-Term Effects of Parental Favoritism
10- How to Handle the Stress of Adult Sibling Rivalry
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.