“اليوم بداية حقبة جديدة للحوسبة؛ كما قدَّم لنا جهاز ماك الحوسبة الشخصية، وقدَّم لنا الآيفون الحوسبة المحمولة، فإن نظارة آبل فيجن برو تُقدِّم لنا الحوسبة المكانية”.
(تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة آبل، من مؤتمر المطورين السنوي WWDC” 2023″)
في المعتاد، غالبا ما تستغل شركة آبل حدثها السنوي للمطورين “WWDC” للإعلان عن تحديثات أنظمة التشغيل الجديدة الخاصة بأجهزتها، ولا تعلن عن منتجات جديدة بالكامل، لكن هذا الأمر تغير في حدثها السنوي لهذا العام “WWDC 2023”.
بدأ الحدث كالمعتاد بالإعلان عن التحديثات الجديدة لأنظمة التشغيل، مثل نظام “iOS 17” لهواتف آيفون، ونظام “iPadOS 17” لأجهزة آيباد، وبعض الإضافات لسلسلة أجهزة ماك بوك، لكن آبل أنهته بالإعلان عن المنتج الذي طال انتظاره وتوقعه لسنوات طويلة، أول خط منتجات جديد تطلقه آبل منذ إعلانها عن ساعتها الذكية في عام 2014، وهو نظارة الواقع المعزز “فيجن برو” (Vision Pro) الجديدة. (1)
تهدف الشركة من طرح هذه النظارة “الثورية” إلى دمج الواقع مع المحتوى الرقمي، لهذا يُطلق عليها نظارة “الواقع المختلط”، بجانب تغيير الطريقة التي يتفاعل بها المستخدم مع هذا المحتوى. وتُقدِّم آبل نظارتها الجديدة باعتبارها منصة حوسبة جديدة بالكامل لا علاقة لها بالهاتف الذكي أو الحاسب الشخصي أو حتى شاشة التلفزيون.
آبل “فيجن برو”
استفاضت الشركة في عرض إمكانيات النظارة الجديدة في الكلمة الافتتاحية لحدث المطورين السنوي؛ هي تشبه قليلا نظارات التزلج، وعندما تلبسها على رأسك يمكنك التنقل عبر التطبيقات الخاصة بالشركة باستخدام عينيك ويديك فقط، بينما تتيح الأوامر الصوتية البحث دون مجهود.
كما أوضحت الشركة أن النظارة ستدعم الكثير من الأنشطة الترفيهية المختلفة، مثل مشاهدة الأفلام وعرض وسائطك الشخصية بشكل ثلاثي الأبعاد، كل هذا مع الصوت المحيطي والتحكم في حجم ما يُعرض أمامك، بجانب تشغيل ألعاب الفيديو. وبالإضافة إلى الترفيه، فهناك إمكانية استخدامها للمهام المتعلقة بالعمل أيضا، مما يسمح لك باستخدام تطبيقات عقد الاجتماعات عن بُعد بالفيديو، وبرامج مثل مايكروسوفت أوفيس وأدوبي لايتروم (Adobe Lightroom).
إحدى المزايا المهمة كذلك هي “EyeSight”، التي توضح للآخرين ما إذا كان المستخدم غارقا في تجربة شيء ما، أو متاحا للتفاعل والحديث معه. عندما تصبح شاشة الجهاز شفافة من الخارج يمكن لمَن حولك أن يعرفوا أنك لا تستخدم النظارة الآن، بينما عندما تصبح معتمة فهذا يعني أنك منغمس في أحد الأنشطة المختلفة.
تعمل النظارة بشريحة معالجة “M2” التي تُنتجها آبل، كما أعلنت كذلك عن نظام تشغيل خاص بالنظارة وهو نظام “VisionOS”، الذي صُمِّم خصوصا للحوسبة المكانية التي تشمل تجارب الواقع المعزز والافتراضي. وخلال الإعلان عن النظارة، كشفت آبل عن عدة شراكات خاصة بنظارتها الجديدة، أهمها توفر خدمة بث المحتوى الترفيهي “ديزني+” داخل تطبيقات النظارة الجديدة بداية من إصدارها الأول. ومن المفترض أن تتوفر في السوق الأميركية بداية من العام القادم 2024، وبعدها في باقي دول العالم، بسعر 3500 دولار أميركي.
كانت آبل تعمل على تطوير أجهزة وبرمجيات نظارات الواقع المعزز منذ عام 2016 على الأقل، عبر قسم يُعرف بـ”مجموعة تطوير التكنولوجيا” (Technology Development Group)، ويُعَدُّ الإعلان عن النظارة الجديدة تتويجا لسنوات من التطوير والبحث في هذا المجال. (2) ودائما ما تحدَّث تيم كوك، الرئيس التنفيذي للشركة، عن إمكانات الواقع المعزز بوصفه تقنية مستقبلية، تنقل تجربة العالم الرقمي إلى العالم الحقيقي، وكيف ستدخل تلك الأجهزة في الاستخدام اليومي لمعظم الناس، وربما تأثيرها سيُماثل اختراع الإنترنت يوما ما.
لكن هذا المجال، وسوق نظارات الواقع الافتراضي نفسه، راكد منذ سنوات (3)، وهناك عدة تجارب لشركات كبرى فاشلة بالفعل، فهل يمكن أن تنجح نظارة آبل فيما فشل فيه الآخرون؟ أو هل يمكن أن تبدأ آبل فعلا حقبة حوسبة مكانية، كما ذكر تيم كوك؟
هل ستنجح؟
منذ بداية فكرة تطوير هذه النظارة، ظهرت عدّة تقارير عن مشكلات وخلافات وتغييرات داخلية في آبل، وأشارت إلى أن تصنيع الجهاز بهذا الشكل لم يكن سهلا وتطلَّب العديد من التنازلات، كما استغرقت عملية تطويره وإنتاجه سنوات أطول مما توقعته الشركة. (4) وبهذا السعر الخرافي، فإن الشركة نفسها تتوقع بطئا في المبيعات على المدى القصير.
لكن هناك بعض الأسئلة الأهم التي ستحتاج الشركة إلى إجابتها في هذا السياق: أولا، السؤال الأهم بالطبع، كيف سيكون شعور المستخدم أثناء ارتداء النظارة؟ مع عدم وجود شريط بالأعلى يثبتها على الرأس، مثل نظارة “ميتا كويست” (Meta Quest)، هل سيُحمَّل وزنها بالكامل على الأنف؟ هل ستكون مريحة في هذا الوضع؟ ثم هناك السلك الذي يتصل بالبطارية، هل سيكون مزعجا أثناء الاستخدام؟ وهل ستسخن النظارة بعد بضع دقائق من الاستخدام كأي جهاز حاسوب به معالج؟
ثم كيف سيبدو الأمر من الداخل وأنت ترتديها؟ حاولت آبل تسويق النظارة الجديدة بالحديث عن كيف يمكنها استبدال جهاز التلفزيون أو شاشة الحاسوب، لكن تنفيذ هذا الأمر بصورة جيدة ومقنعة في جهاز ترتديه على وجهك سيتطلب قدرا هائلا من قوة المعالجة ووضوح الصورة.
وبالطبع هناك سؤال مشروع من المستخدم العادي: ما فائدتها بالنسبة لي؟ مثلا عندما أعلنت آبل عن ساعتها الذكية أول مرة، عام 2014، (5) كان هناك سوق ناشئ بنمو سريع، وصلت مبيعاته حينها إلى 1.5 مليار دولار، مع توقعات بالزيادة في المستقبل، (6) قبل أن تسيطر آبل بنفسها على هذا السوق عالميا في السنوات التالية. (7) لكن الآن، وحتى اللحظة، لا يوجد سوق كبير لأجهزة الواقع الافتراضي أو المعزز، باستثناء بعض الأمثلة الشهيرة حاليا مثل نظارة “ميتا كويست”، ومجموعة من النماذج الأولية الناجحة مثل “HoloLens” من مايكروسوفت التي توقفت بعدها، حتى إن معظم المستخدمين لا يملكون فكرة عن كيف تعمل هذه الأجهزة من الأساس، ولا يبدو أن أحدا يهتم بهذا. وربما لمحاولة إيجاد هذا السوق، أو لإيجاد استخدامات حقيقية، حاولت آبل استعراض الشراكات مع خدمات رقمية أخرى، مثل “ديزني+” وغيرها.
لكن هناك بعض الأصوات المتفائلة بإطلاق هذا المنتج لأنه من آبل تحديدا، وأنه ربما يكون أكثر نجاحا من المحاولات السابقة.
نظرة متفائلة
في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021، بدأ انتباه العالم يتحول إلى صناعة وأجهزة الواقع الافتراضي (VR)، لأن مارك زوكربيرغ قرر إعادة تسمية شركته من “فيسبوك” إلى “ميتا”، تيمُّنا ببدء صناعة جديدة للتقنية وهي الميتافيرس. تلك الصناعة من المفترض أن تعتمد بالكامل على هذه النظارات الضخمة على الرأس، بهدف توفير تجربة رقمية غامرة كما وعدنا مارك حينها. ولكن كما رأينا على مدار الفترة الماضية، تقريبا انهار حلم الميتافيرس، وظهر حلم جديد وهو الذكاء الاصطناعي و”شات جي بي تي” ليلفت أنظار العالم، وبالتالي مبيعات تلك النظارات لم تتحرك إلى أي مكان يُذكر.
لكن بعض محللي “بنك أوف أميركا” يعتقدون أنه “رغم تلك المشكلات الحالية، ورغم خفوت نجم الميتافيرس، فيجب علينا تذكُّر أن آبل تخترع فئات جديدة بالكامل من الأجهزة التقنية تملك القدرة على تغيير الأسواق القائمة وخلق أسواق جديدة تماما”. (8)
في الحقيقة، هذا ليس رأي “بنك أوف أميركا” وحده، حيث يرى كثير من الأشخاص في صناعة التقنية أن إعلان آبل عن نظارتها الجديدة سيحمس المستهلكين، ومطوري البرمجيات، ويقرب تلك التقنية إلى الوعد الذي يتخيله تيم كوك، بأن تكون هي الجهاز الذي نرتديه ونستخدمه يوميا في مختلف أنشطة يومنا، بديلا للهاتف الذكي.
تدور تلك النظرة المتفائلة حول أن آبل نادرا ما تبتكر منتجا جديدا من العدم، لكنها في المقابل تأخذ الأفكار الموجودة حاليا وتُحسِّنها بأساليب مبتكرة لتجعلها أكثر جاذبية للمستهلكين. مثلا قبل إطلاق جهازها الأشهر للموسيقى الآيبود (iPod) قبل عقدين، كان السوق مليئا بكثير من الأجهزة المشابهة، وقبل إطلاق أول آيفون، كان هناك أجهزة بلاك بيري، وقد كانت بمنزلة حاسوب صغير في جيبك حينها.
تاريخيا، استخدمت آبل قوة علامتها التجارية الاستهلاكية الهائلة، بجانب ميزانيتها التسويقية الضخمة، لتشرح للمستهلكين سبب حاجتهم إلى أحدث أجهزتها، كأن المستهلك هو مَن سيفوته الأمر إن لم يستخدم هذا الجهاز أو ذاك.
عموما، من المؤكد أن عالم تقنية نظارات الواقع الافتراضي أو المعزز ليس له حالات استخدام واضحة وليس جذابا للشرائح الأوسع من المستهلكين المحتملين حتى الآن، ومعظم مَن يعمل بالمجال يُمضي كثيرا من وقته في محاولة شرح الاختلافات بين الواقع المعزز والافتراضي والمختلط، بدلا من محاولة بيع المنتج نفسه. لكن هنا التحدي بالنسبة لآبل، إن تمكنت الشركة من إزالة الغموض حول تلك الصناعة بأكملها لعامة المستخدمين، وبالتأكيد خفَّضت من سعرها مستقبلا، فقد ينتهي بها الأمر لتصبح الشركة الأولى التي تبيع تلك النظارات للمستخدم وهو يفهم ما يشتريه حقا.
____________________________________________________
المصادر:
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.