تفاعلت كثير من العلوم لتطوير التحليل النقدي للخطاب السياسي، ومن أهمها علوم اللغة والاجتماع وعلم النفس والسياسة، حيث تزايد الاهتمام بالخطاب السياسي وتأثيره على مستقبل الدول.
والتحليل النقدي للخطاب السياسي يستهدف اكتشاف المعاني الظاهرة والخفية في الرسائل، وتأثيرها على الجمهور، وكيف يستخدم السياسيون اللغة لتحقيق أهدافهم.
الملامح الأيديولوجية
من أهم أهداف التحليل النقدي لخطاب الرؤساء اكتشاف الملامح الأيديولوجية الخفية وعلاقات القوة، عن طريق تحليل كل من الكلمات وتركيب النص.
ورغم أهمية دور علم اللغة في تطوير التحليل النقدي لخطاب الرؤساء، فإن هناك مناظير علمية متعددة تسهم في بناء مقاربة التحليل النقدي للخطاب السياسي؛ فالرؤساء يوجهون خطابهم للجماهير بهدف إقناعها والتأثير على اتجاهاتها ومعتقداتها، وهم في ذلك يستخدمون أساليب سيكولوجية مثل إثارة خوف الجماهير، بهدف دفعها لتقبل الوضع الراهن أو تشكيل رأي عام يؤيد سياساتهم.
يتم اختيار كاتبي خطابات الرؤساء بحيث تتوفر فيهم مجموعة من السمات، من أهمها فهم اللغة والحساسية لاستخدام الكلمات، والكفاءة في الاتصال عبر الثقافات، والوعي بالأهداف التي يريد الرئيس أن يحققها، لذلك فإن اختيار كاتب الخطابات من أهم القرارات التي يتخذها الرئيس
لغة التخويف وإدارة الصراع
يتزايد استخدام لغة التخويف في خطاب الرؤساء خلال الحروب والأزمات الخارجية والداخلية، فهم يركزون على المصطلحات والكلمات التي تدفع الجماهير إلى تأييد شن الحرب على دولة أجنبية تشكل تهديدا للدولة.
لذلك تزايد الاهتمام بدراسة لغة الخوف في الخطاب السياسي، فكل رؤساء الدول يقومون بإعادة إنتاج لغة الخوف في خطاباتهم بشكل مقصود لتحقيق أهدافهم في إدارة الصراع والتلاعب باتجاهات الجماهير.
ماذا يعني ذلك؟
إن تحليل خطابات الرؤساء واستخدامهم للكلمات يحتاج إلى مقاربات متعددة الأبعاد، من أهمها دراسة المشكلات التي يتناولها الرؤساء والظروف السياسية والاقتصادية التي يتم فيها إنتاج الخطاب، فهذا التحليل لا يعتمد على النص وحده ولكن تجب دراسة النص على ضوء السياق السياسي الاجتماعي الذي تم إنتاجه فيه، وكيف تم تنظيم الخطاب وترتيب الموضوعات فيه.
وظيفة خطاب الرئيس
تقوم خطابات الرؤساء بوظائف متعددة، من أهمها تحديد علاقات القوى لذلك يحتاج النص إلى شرح وتفسير لاكتشاف الأهداف، لذلك يكون مفتوحا لتفسيرات متعددة لاكتشاف الأيديولوجية والإستراتيجيات الإقناعية والعلاقة مع الآخر، وكيف يبني صورة دولته في أذهان الجماهير.
بناء المعاني في خطاب الرؤساء
إن الكلمات التي يستخدمها الرؤساء يتم اختيارها بشكل محدد للتعبير عن المعاني التي يريدون أن يفهمها الجمهور، والرئيس الذي يريد أن يؤثر على جمهوره يجب أن يعمل على تطوير أسلوبه اللغوي -الذي يتناسب مع شخصيته وثقافة مجتمعه وسياسة دولته- وأن يفهم الظروف التي يتم فيها استخدام الكلمات، فكل كلمة يتم تحليلها لمعرفة الأهداف التي يريد الرئيس أن يحققها.
يتم اختيار كاتبي خطابات الرؤساء بحيث تتوفر فيهم مجموعة من السمات، من أهمها فهم اللغة والحساسية لاستخدام الكلمات، والكفاءة في الاتصال عبر الثقافات، والوعي بالأهداف التي يريد الرئيس أن يحققها، لذلك فإن اختيار كاتب الخطابات من أهم القرارات التي يتخذها الرئيس.
استغلال الأحداث لتحقيق التأثير
رؤساء الدول يستخدمون الأحداث لتحقيق أهدافهم في التأثير على الجماهير وتشكيل الرأي العام، ويستخدمون الكلمات التي تتناسب مع الأحداث في التعبير عن المعاني.
تعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول حالة كاشفة لاستخدام الرئيس الأميركي للأحداث وتوظيفها واستخدام الكلمات التي تحقق إستراتيجيته في تخويف الأميركيين ودفعهم لتأييد العدوان الأميركي على أفغانستان والعراق.
هناك بعض الأحداث التي تجعل الجماهير تنتظر خطاب الرئيس، خاصة عندما يتزايد القلق وعدم اليقين وتفقد الجماهير القدرة على الحصول على المعلومات الصحيحة، لذلك ركز الرئيس الأميركي جورج بوش الابن على حماية الشعب الأميركي في مواجهة العدو.
لغة إدارة الصراع
يوضح تحليل خطابات الرؤساء الأميركيين أن الكلمات التي يستخدمها الرؤساء تشكل عاملا فاعلا في إدارة الصراع، لذلك يتم التركيز على الأنا في مواجهة الآخر، ونسبة الصفات الإيجابية للذات والصفات السلبية للعدو، “فنحن” دائما نتميز بالطيبة والخير، في مواجهة “هم” الذين يتم تصويرهم بأنهم “الأشرار”.
كما يتم التركيز على إثارة المشاعر الوطنية ودفع الجمهور للشعور بالتميز عن العدو، فقد طرح الرئيس الأميركي بوش سؤالا: “لماذا يكرهوننا؟!” وأجاب عنه بقوله “لأننا رائعون ومتقدمون وديمقراطيون!”
وقد ثبت أن هذه الأساليب تؤثر على الجماهير، خاصة عندما تتعرض لأحداث يمكن أن تشكل خطرا يهدد وجودها.
داخل ذلك السياق، تمكّن الرئيس الأميركي بوش من دفع الشعب الأميركي لتأييد عدوانه على العراق وأفغانستان؛ فقد أسهمت أحداث 11 سبتمبر/أيلول في تطوير أسلوبه اللغوي ونطقه للكلمات وتركيبه للعبارات، وتنظيمه للخطاب.
هذا النموذج يوضح أهمية دراسة السياق الذي تم فيه إنتاج خطاب الرئيس، لنتمكن من تحليله بأسلوب نقدي ونكتشف كيف تفاعل الخطاب مع الأحداث.
التحليل النقدي لخطاب بوش
هناك الكثير من الدراسات التي قدمت تحليلا نقديا لخطاب الرؤساء، من أهمها دراسة روبرت بشارة -الباحث بجامعة ويست جورجيا- التي أوضحت الأسس الأيديولوجية في خطاب الرئيس الأميركي بوش الابن، ومن أهمها:
- الإسلاموفوبيا وربط الإسلام بالإرهاب.
- الإرهابيون الإسلاميون أعداء الحرية، وهم مجرمون ومتطرفون وراديكاليون.
- الإرهابيين يقتلون المسيحيين واليهود.
- الإرهابيون الإسلاميون فاشيون ونازيون.
- ليست هناك وسيلة لمواجهة الإرهابيين وحل المشكلة سوى الحرب.
- إن أميركا تمثل المسيحيين واليهود ضد المسلمين في الشرق، ورأى أن الحرب على الإرهاب حرب صليبية.
- هناك تناقض بين الوطنية الأميركية والإسلام.
- إن أميركا ستقوم بتأديب الإرهابيين ومعاقبتهم.
- تبرير الإستراتيجية الأميركية للسيطرة على العالم.
- استخدام الرموز المؤثرة عاطفيا.
يوضح التحليل النقدي لخطاب الرئيس الأميركي بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول أنه استخدم الرموز الوطنية والدينية التي تؤثر على عواطف الشعب الأميركي، والتي شكلت أساسا لترويج الإسلاموفوبيا، فلقد استخدم بوش -ما يطلق عليه روبرت بشارة- “المنطق الإسلاموفوبي” الذي يقوم على أن كل الإرهابيين مسلمين، بالرغم من الاعتراف بأنه ليس كل المسلمين إرهابيين.
لكن هذا المنطق أدى إلى انتشار الإسلاموفوبيا، والتقليل من إنسانية المسلمين، وحدد بوش إطار الحرب في أنها سوف تستمر حتى تتم هزيمة كل الإرهابيين والقضاء عليهم في كل مكان، وهذا يعني توسيع نطاق الحرب التي وصفها بأنها الوسيلة الوحيدة للقضاء على الإرهاب.
منظور الرأسمالية
ويضيف روبرت بشارة جانبا مهما، وهو أن تلك الحرب على الإرهاب عبّر عنها بوش من منظور الرأسمالية العالمية بأنها الحل الوحيد، وهذه الحرب لا نهاية لها؛ لذلك استخدم بوش بعض الكلمات مثل “الربح”، لذلك فهي حرب استعمارية جديدة تقوم على منطق “الربح”.
لقد ربط بوش الابن الحرب على الإرهاب بالرأسمالية العالمية؛ ولذلك فإنها حرب ممتدة، والولايات المتحدة يجب أن تكسبها، وهذا يوضح الأسس الأيديولوجية الخفية حينما قامت أميركا بعملية نهب واسعة للثروات العراقية.
هكذا يوضح التحليل النقدي لخطاب الرئيس الأميركي بوش أهداف أميركا في فرض السيطرة الأميركية على العالم ونهب ثروات الدول، فأميركا يجب أن “تكسب” الحرب، لذلك كانت شركات البترول الأميركية من أهم القوى الفاعلة في اتخاذ قرار الحرب وتقديمه للأميركيين باعتباره الحل الوحيد.
تحليل نصوص الخطابات
إن التحليل النقدي لنصوص خطابات الرئيس الأميركي يكشف منظومة العقائد وآليات السيطرة وعلاقات القوة، فهو يتحدث باسم الإمبراطورية الأميركية والرأسمالية العالمية، ويعمل على إقناع الشعب الأميركي بتحقيق أهداف طويلة المدى.
كما أنه يستخدم كلمات يفهمها الأميركيون والأوربيون الذين يشكل المنطق الرأسمالي المادي البراغماتي حياتهم.
أيديولوجية الاستعمار الجديد
إن التحليل النقدي لخطاب الرؤساء يوضح أن الخطاب الرئاسي وسيلة مهمة للتعبير عن الأسس الأيديولوجية للدولة وترويجها؛ لذلك يوضح خطاب بوش الابن العلاقة القوية بين الرأسمالية والاستعمار الجديد والحرب على الإرهاب والإسلاموفوبيا.
كما يوضح أن من أهداف الحرب طويلة المدى على الإرهاب تحقيق أقصي قدر ممكن من الأرباح للنخبة الأميركية الأوربية المسيطرة؛ وفي ذلك يقول روبرت بشارة “إن هدف الحرب على الإرهاب ليس حماية الأميركيين، لكن هدفها الرئيسي هو فرض النظام العالمي الجديد والترويج للخوف من الإسلام لفرض الاستعمار الجديد، وتبرير السيطرة الأميركية”.
الكلمات السحرية في الخطاب
استخدم بوش الابن عددا كبيرا من الكلمات التي استهدف بها التأثير على عواطف الشعب الأميركي، والتي ما زالت تؤثر أيديولوجيًا على اتجاهات الجماهير، فلقد أوضح التحليل النقدي لخطاب بوش أن الحرب على الإرهاب هدفها فرض السيطرة الأميركية، وأن نشر الإسلاموفوبيا من أهم الأسلحة التي تم استخدامها في هذه الحرب.
كما أن مبالغة بوش في الحديث عن الوطنية الأميركية أدى إلى نفي صفة الوطنية عن الأقليات والمهاجرين، خاصة المسلمين نتيجة الربط الزائف بين الإرهاب والإسلام.
لذلك، أصبحت الحرب على الإرهاب إطارا أيديولوجيا تم فرضه على الأميركيين ليتقبلوا مجموعة من الإجراءات الاستثنائية التي تشكل عارا للشعب الأميركي، مثل تعذيب الأسرى في غوانتانامو وأبو غريب كما تم تصوير الحرب بأنها دليل الوطنية.
لذلك، لم يعد المواطن الأميركي يفكر بأسلوب حر وديمقراطي، لكنه يفكر في حماية نفسه من الإرهاب باستخدام وسيلة وحيدة هي الحرب.
كانت تلك بعض النتائج التي حققها بوش الابن، وهذا يوضح أن خطاب الرئيس يسهم في بناء الواقع وفي تحديد الأطر التي تفكر فيها الجماهير، لذلك تناقصت قدرة الأميركيين على الابتكار وإنتاج الأفكار الجديدة والتعبير بحرية عن آرائهم ومعارضة القرارات التي يتخذها الرئيس، مثل شن العدوان على أفغانستان والعراق، ويعد ذلك مؤشرا مهما على النهاية التدريجية للسيطرة الأميركية.